قراءة في فقه الكذب: خديعة الوعي الجمعي

د. عصام الدين عباس

منذ نشأة الدولة السودانية الحديثة، لم تكن السياسة يومًا بريئة من دهاء المناورات ومكر الأجندات الخفية والكذب، إذ كثيرًا ما سلك الفاعلون السياسيون طرقًا ملتوية للوصول إلى غاياتهم. وبينما تتعدد أدوات الخداع، فقد اختار البعض في السودان أن يتخذوا من الدين ستارًا ورافعة لأكاذيبهم، حيث ادعى بعضهم في بدايات العهد الاستعماري البريطاني أنهم نبي الله عيسى، وادعى آخرون أن النبي محمد ﷺ قد زارهم في المنام وأوصاهم بالمضي في مشاريعهم. إلا أن توظيف الخداع وتزييف الحقيقة باسم الدين قد بلغ ذروته مع صعود الإسلاميين إلى الحكم بانقلاب الثلاثين من يونيو 1989، إذ حولوا الكذب إلى أداة استراتيجية لإحكام سيطرتهم على السلطة، واعتمدوا التضليل منهجًا ثابتًا في خطابهم السياسي والإعلامي. غلّفوا أكاذيبهم بعباءة الدين، فبدلوا الحقائق وضللوا الوعي الجمعي، حتى صار التلاعب بالحقيقة جزءًا أصيلًا من بنيتهم الأيديولوجية.

هذا المقال يتناول أبرز محطات الكذب السياسي لدى الحركة الإسلامية في السودان، ويحلل كيف تم تسويقه عبر خطاب ديني وشعارات زائفة، مستغلين بساطة قطاعات واسعة من المجتمع.

انقلاب 30 يونيو 1989: الكذب لحظة الولادة

رغم أن انقلاب 1989 كان ثمرة تخطيط محكم من قبل الحركة الإسلامية، فإن أول ما فعلوه بعد السيطرة على السلطة هو التنصل منه أمام الرأي العام. عمدوا إلى بث رواية إعلامية مفادها أن الجيش تحرك بمبادرة وطنية، وأن الحركة الإسلامية لم تكن طرفًا في الانقلاب. بل بلغ بهم الأمر حد الزج ببعض قياداتهم في السجون لتمويه المشهد، وعلى رأسهم حسن الترابي نفسه، الذي أطلق عبارته الشهيرة: “اذهب أنت إلى القصر رئيسًا، وسأذهب إلى السجن حبيسًا”.

بهذا التضليل الممنهج، نجحوا في تهدئة الشارع وتمرير انقلابهم على أنه خطوة وطنية مستقلة، بينما كانت الحقيقة أنها عملية استحواذ على الدولة.

محاولة اغتيال حسني مبارك: نفي وإخفاء الأدلة

في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وقعت محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في التسعينيات (عام 1995). كانت كل الأدلة تشير إلى تورط النظام السوداني بقيادة الإسلاميين، لا سيما أجهزته الأمنية وبعض قيادات الحركة الإسلامية. لكنهم أنكروا صلتهم بالحادثة، وبدأوا بترويج سرديات بديلة لتحويل الأنظار. بل إنهم لجأوا إلى تصفية بعض العناصر المشاركة في العملية، إما عبر اغتيالات مباشرة، أو من خلال محاكمات صورية انتهت بالإعدام، في محاولة لطمس آثار الجريمة وقطع الخيوط التي قد تقود إليهم.

حرب الجنوب: الجهاد الزائف وتسويق الكرامات

خلال الحرب الأهلية في جنوب السودان، وظّف الإسلاميون خطابًا دينيًا اعد بإحكام لتجنيد الشباب وإقناع الأسر بتقديم أبنائهم للموت طوعًا، تحت شعار “الجهاد”. أطلقوا حملة دعائية ضخمة صورت سفك دماء الأبرياء في جنوب السودان كمعركة مقدسة، وتفنن إعلامهم في نسج الخرافات وتسميتها بالكرامات: “غزال يأتي طوعًا ليُذبح تقربًا إلى الله”، “سحب تظلل المقاتلين”، “رائحة المسك تفوح من قبور القتلى”، “الشهيد يردد سورة يس أثناء دفنه”. ورغم وضوح الطابع الخرافي لهذه القصص، فإنها نجحت في استقطاب البسطاء، خصوصًا حينما قُدمت في قالب ديني. لكن ما إن نشب الخلاف داخل الحركة الإسلامية عام 1999 ووقعت المفاصلة بينهما، حتى تبرأ الترابي من الحرب، وصرّح بأن من ماتوا في الجنوب ليسوا شهداء، بل وصفهم بـ “الفطايس”. بهذه الكلمات انكشفت حقيقة زيف ما أسموه بالمشروع الحضاري.

المليشيات: صناعة العنف خارج المؤسسات

لطالما ادعى الإسلاميون أنهم في خندق واحد مع القوات المسلحة، لكن سلوكهم كان يشير إلى عكس ذلك.

كانوا يدركون أن الجيش كمؤسسة قد لا يضمن ولاؤه الدائم، لذلك سعوا إلى خلق كيانات موازية تحقق لهم التوازنات إذا دعت الضرورة، بدءًا من “قوات الدفاع الشعبي”، مرورًا بقوات “القبائل العربية في دارفور”، وانتهاءً بقوات “الدعم السريع”.  لقد شرعنوا وجود الدعم السريع عبر قوانين خاصة صادرة من مجالس تشريعية خاضعة لهم، ووجّهوا إعلامهم لتسويق هذه المليشيا باعتبارها “قوة وطنية”، بل وكتبوا فيها القصائد والأهازيج.. حينما هب ثوار السودان مطالبين بحل هذه المليشيا انبرت الأقلام “المتوضأة” في الدفاع عنهم وتعظيم شأنهم ووضعهم في مرتبة الصالحين: ألم يصف إعلامهم أحد مجرمي الدعم السريع الذي عاث فسادًا في ولاية الجزيرة بأنه “خالد بن الوليد” وما زالوا يصرون على وصف القاتل كيكل بذلك.

تخوين القوى المدنية: الحرب على الثورة

أدرك الإسلاميون منذ وقت مبكر أن الشارع الثوري، بوعيه المتقدم وتجاربه التراكمية، والقوى المدنية التي تقوده، يشكلان التهديد الأبرز لمشروعهم السياسي الذي يسعى لاستعادة السلطة عبر بوابة الفوضى والانقلاب على الثورة. ومن هذا الإدراك، انطلقت ماكينة إعلامية ضخمة وموجهة، تعمل على تشويه صورة القوى المدنية وتمزيق صفوفها، مستخدمة خطابًا عدائيًا ممنهجًا. روجت هذه الحملة لكذبة “الاتفاق الإطاري أو الحرب”، في مسعى لتأليب الرأي العام ضد أي مسار سياسي مدني. وبلغت الحملة ذروتها عندما ألصقوا بالقوى المدنية تُهمة أنها “الذراع السياسي للدعم السريع”، في محاولة لتجريمها أخلاقيًا وشعبيًا، وتجريدها من الشرعية الثورية. وعندما أصر تحالف “صمود” على التمسك بخيار الحراك المدني السلمي، ورفض الانحياز لأي من طرفي الحرب، تحولت الماكينة الإعلامية الإسلاموية بكل ثقلها ضده، ساعية لتقويض صلته بالشارع الثوري، وضرب رمزيته الأخلاقية والسياسية، في محاولة مستميتة لعزل التيار المدني الحقيقي عن الجماهير، وخلق فراغ تتسلل منه قوى الثورة المضادة لاستعادة الهيمنة.

لماذا صدقهم البعض؟

إن تصديق قطاع من السودانيين لأكاذيب الإسلاميين لا يمكن عزله عن السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي الذي تراكم عبر عقود من الحكم السلطوي، والتضليل الإعلامي، والانقسام المجتمعي، والتجارب السياسية المعقدة التي مر بها السودان. ويمكن تحليل هذا الانجذاب للرواية الإسلاموية من خلال عدة أسباب مترابطة:

 الإرث الطويل لغسل الأدمغة وهيمنة الإعلام: خلال ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ، سيطر الإسلاميون على مفاصل الدولة وأجهزتها الإعلامية، ووظفوها لترسيخ خطاب أحادي يصورهم كحماة الدين والوطن، ويُجرّم كل من يعارضهم بوصفه علمانيًا أو خائنًا أو عميلًا للخارج. هذه العقود زرعت في وعي بعض قطاعات الشعب مفاهيم مشوشة حول الوطنية والدين والسياسة، وجعلت الكثيرين عرضة لتصديق الخطاب الشعبوي الذي يتلاعب بالمقدسات.

 الاستثمار في العاطفة الدينية: أتقن الإسلاميون استخدام الدين كسلاح سياسي، فحوّلوا المعارك السياسية إلى “معارك بين الإيمان والكفر”، وصوروا خصومهم المدنيين كأعداء للدين، متناسين عمدًا أن الصراع معهم هو صراع لأجل العدالة الاجتماعية. هذا التوظيف العاطفي جعل شريحة من السودانيين، خصوصًا في الريف والمجتمعات المحافظة، تميل إلى تصديق سرديات الإسلاميين دون تمحيص.

  التضليل الممنهج عبر الوسائط الجديدة: استغل الإسلاميون وسائل التواصل الاجتماعي بحرفية، إذ أنشأوا مئات الصفحات والمجموعات التي تنشر الشائعات وتشوّه الحقائق بصورة يومية. خاطبوا فيها المشاعر والعواطف، وصياغة الأخبار بأسلوب درامي جذاب، مما جعل الأخبار الملفقة تنتشر أسرع من التصحيحات الرسمية أو التوضيحات الثورية.

 ضعف الوعي السياسي في بعض المناطق: لم تتح لكثير من السودانيين فرص كافية للتعليم السياسي أو الإعلامي، مما جعلهم ضحية سهلة للدعاية الإسلاموية، لا سيما في المناطق الطرفية والمهمشة، التي تعاني من ضعف الخدمات وانتشار الأمية السياسية. ولأن هذه المجتمعات تميل إلى الانغلاق أحيانًا، كان يسهل تسويق الخطابات المؤامراتية فيها.

 سياسة التخويف والشيطنة: نجح الإسلاميون في تخويف الناس من التغيير، عبر خطاب يُحذر من مصير الدول المجاورة (مثل ليبيا وسوريا واليمن)، ويزعم أن القوى المدنية ستقود السودان إلى الفوضى والتقسيم. هذا الخطاب، المقترن بالهجوم على الدعم السريع و”شيطنة” أي تيار لا يعاديه صراحة، ساعد في تشويش وعي الناس وإرباك إدراكهم للواقع المعقد.

الاستفادة من أخطاء الفترة الانتقالية: وقعت القوى المدنية، في مراحل مختلفة، في أخطاء تنظيمية، منها ضعف الخطاب الموحد، والانقسامات، وعدم القدرة على تقديم بدائل واضحة وعملية في نظر المواطن البسيط، وهو شيء متوقع في جميع الديموقراطيات الناشئة. هذه الثغرات استغلها الإسلاميون لإقناع العامة بأن هذه القوى ليست سوى واجهات نخب لا تمثل الشعب، بل وتتآمر عليه. اقترن ذلك مع حالة الإحباط العامة التي تسببت فيها الأزمة الاقتصادية، وتدهور الأمن، وتعثر الحكومات الانتقالية في تحقيق تطلعات الثورة، أصبح المواطن السوداني البسيط يبحث عن “منقذ” أو “رواية بديلة” تفسر له ما يحدث. هنا وجد الخطاب الإسلاموي، رغم تهافته، بيئة خصبة للانتشار عبر القنوات الاجتماعية والدينية وشبكات التأثير المحلية، خصوصًا مع غياب إعلام ثوري فعال.

ختامًا: الكذب كعقيدة سياسية

إن التجربة الإسلاموية في السودان تقدم نموذجًا لكيف يمكن للكذب أن يتحول إلى “عقيدة سياسية” متكاملة، تُبنى حولها شبكات إعلامية، وتحالفات سلطوية، وكيانات مسلحة. لقد كانت أدواتهم في ذلك الدين، العاطفة، الإعلام، والسلاح.

وما لم يتم تفكيك هذه البنية الدعائية وكشف زيفها بصورة شاملة، فإن خطر استدراج البسطاء عبر الأكاذيب سيظل قائمًا، وستظل البلاد عرضة لدوامة الاستغلال والخداع.

 

Exit mobile version