مدن تحت الحصار : كادوقلي، الدلنج، الفاشر.. تعالج الجوع بالانتظار

إعداد – وحدة الرصد والتحليل

في أعماق السودان، حيث الأرض عطشى والسماء لا تمطر إلا قنابل، تصمد ثلاث مدن كجراح مفتوحة على جسد الوطن: كادقلي، الدلنج، الفاشر. مدن لم تعد تنتظر الحياة، بل تحتمي بما تبقى من أنفاسها، وتتقاسم الرمق الأخير على أمل أن يراها العالم، أو يسمع صرخة طفلٍ ضاع صوته من فرط الجوع.

حصار المدن الثلاث يكاد يقترب من الدخول إلى عامه الثالث. لا دواء، لا طعام، لا صوت. فقط حصى الطرقات وعيون الأمهات التي تذبل ببطء، وطفولة تنهار تحت وطأة الجوع مثل أعمدة طين أكلتها الأمطار والنسيان.

الفاشر.. مدينةٌ تمشي على ضفاف المجاعة

في الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بعدد الوجبات المفقودة منذ أن طوقت قوات الدعم السريع المدينة قبل أكثر من عامين، تحولت الفاشر إلى ما يشبه “مقبرة للأحياء”… الأسواق فارغة، الصيدليات مغلقة، والمستشفيات باتت غرف انتظار للموت، وليس للعلاج.

“لم نعد نحلم بطعام يكفينا، بل فقط بأن لا نُدفن اليوم”، تقول خديجة، وهي أم لطفلٍ توقف وزنه عند أربعة كيلوغرامات، لا يقوى على البكاء، ولا على التنفس إلا بارتعاش جسده الهزيل. المستشفى السعودي، آخر معقل للأمل الطبي، يتحول كل يوم إلى مسرح مأساوي، يقول أحد الأطباء هناك: “نحن لا نعالج.. بل نُسجّل زمن الموت. نرى الأطفال يذبلون كالزهور التي نسيها المطر، ولا نملك سوى أن نمسح جبينهم في انتظار النهاية.”

أما المطابخ الخيرية، “التكايا”، التي كانت تُشعل نار الطنجرة لأربعة آلاف فقير يوميًا، فقد أُطفئت قبل شهور. ليس لانقطاع التبرعات، بل لانقطاع الحياة. الناس الآن يأكلون “الأمباز” –علف البهائم– أو يبحثون عن فتات الخبز داخل أكياس القمامة. أطفال في عمر الورد، يفتشون عن لقمة ملوثة، ثم يضحكون عندما يجدونها، وكأنهم عثروا على كنز.

الناشط محمد حسن، من تنسيقية مقاومة الفاشر، يقول: “”الموت أصبح زائرًا يوميًا. النساء لا يبكين، الأطفال لا يصرخون. هذه المدينة لا تحتضر، بل تُقتل ببطء وسط تجاهل دولي معيب”.

في أحد أحياء الفاشر الشرقية، الحي الأكثر عرضة لغارات الدعم السريع، تسير أمينة بخطى ثقيلة، تحمل في يدها كيسًا بلاستيكيًا فارغًا، وفي يدها الأخرى طفلًا يكاد لا يقوى على الحياة. أمامها عشرات النساء يلتففن حول كومة من القش بحثًا عن بقايا الذرة المنسكبة.

الشمس بدأت تسخّن الحصى تحت الأقدام. السوق مغلق. المتاجر مهدمة جزئيًا. بعض الباعة جلسوا على الأرض يبيعون قشر الفول، والماء في أكياس صغيرة .

“لم أتناول شيئًا منذ أمس، فقط شربت الماء”، تقول أمينة بصوت شبه مبحوح. ثم تواصل في حديثها لـ”أفق جديد”: “أطفالي لا ينامون من الجوع.. نغلي الماء ونضيف إليه ذرات من دقيق الذرة كيما يشربوه، وفي الغالب هذه الذرات لا تتوفر..”

مئات العائلات في الفاشر تجوب الشوارع منذ الفجر يوميًا، لا تبحث عن طعام، بل عن أمل في أن يكون هناك طعام في إحدى التكايا. منذ أكثر من عامين، تغلق المدينة على نفسها ككفّ مشدود. قوات الدعم السريع تحيط بها من كل الاتجاهات. كل المداخل مغلقة. تمنع دخول أي شاحنة إغاثة، وتكتم خروج صرخة مسموعة.

الـدلنج.. مدينة تنهض كل يوم على خيبة

في الدلنج، الصورة ليست أوضح، بل أكثر ظلمة. كل فجر جديد، تخرج العائلات في طوابير طويلة – وجوههم رمادية، أعينهم لا تنظر، أقدامهم تجر بعضها – يقفون أمام محلات خاوية من البضائع. ساعات وساعات، وفي النهاية يعودون بلا شيء.

امرأة تُدعى رجاء، أم لثمانية أطفال، قالت إنها لم تطعم أبناءها سوى مرتين في أسبوع كامل، وأصيبت بوعكة صحية نتيجة الجوع. لكن رجاء ليست استثناء، بل هي نموذج متكرر لأمهات هذه المدينة المنسية.

في السوق، الأطفال يجمعون حبوب الذرة من الأرض، يلتقطونها من تحت أرجل الناس، يخبئونها في جيوب مهترئة وكأنها مجوهرات ثمينة..

المأساة هنا ليست فقط في الفقر، بل في غياب السلع نفسها. فحتى من يملك المال لا يستطيع الشراء. فالحصار الكامل حوّل المدينة إلى صحراء جوع، لا ظلّ فيها إلا للصبر.

 

كادوقلي.. حين يتحوّل السوق إلى ساحة قتال

أما كادوقلي، عاصمة جنوب كردفان، فقد تجاوزت حدود الحصار إلى حالة من الفوضى والانفلات التام.

السوق هناك ليس مكانًا للبيع، بل لمعارك صغيرة تُخاض بالسلاح الأبيض والناري. مسلحون بزي عسكري يقتحمون المحلات، ينهبون الدقيق والزيت، ويتركون خلفهم متاجر خاوية وأصحابها مكسوري النظرة.

أمير البرام، كافي طيار، توعّد بفتح المخازن بنفسه، مدّعيًا توزيع الغذاء بالقوة. لكن هذه “العدالة المسلحة” لم تجلب سوى الرعب، والاشتباكات، والفوضى. حتى الجيش نفسه اشتبك مع جماعته قبل أسابيع، حين حاولوا السيطرة على مخازن غذائية بالقوة.

 الطريق الوحيد المؤدي إلى كادوقلي، عبر الدلنج، مقطوع. الدبيبات في قبضة قوات الدعم السريع، والدشول تحت سيطرة الحركة الشعبية – ولا شيء يمر إلا بإذن من الموت.

في ملعب كادوقلي، تقيم أكثر من 450 أسرة نزحت من مناطق الاشتباك. لا مأوى، لا طعام، لا دواء. أكثر من 74% من هذه الأسر تضم أطفالًا يعانون من سوء تغذية حاد، وبعضهم ينام على التراب، ويشرب من مياه آبار ملوثة.

صمت العالم.. وخيانة الداخل

وراء كل هذا، يقف العالم صامتًا. الأمم المتحدة لم تصدر خطة تدخل واحدة. لا ممرات إنسانية، ولا قوافل طوارئ. المجتمع الدولي، الذي يُهرع عادة لإنقاذ القطط العالقة في الأشجار، لا يسمع بكاء الفاشر، ولا أنين الدلنج، ولا صرخات كادوقلي

حتى الحكومة السودانية، المركزية في بورتسودان، لا تهتم إلا بالتصريحات الفارغة.

يقول الناشط إسماعيل عيسى: “الحصار كامل. هذا قتل ممنهج. من يتأخر في التحرك، مشارك في الجريمة”.

وأضاف: “القيادات تغرّد من فنادق الساحل، بينما الناس هنا يموتون وسط النسيان، وتحت نيران الجنجويد”.

من سينقذ الصابرين؟

أمام هذا المشهد المروّع، يصبح السؤال ليس: “من يطعم الفاشر أو الدلنج أو كادوقلي؟”. بل من سيعترف أنهم بشر؟

من سيكسر حاجز الصمت؟

من سيخترق هذا الحصار الإنساني الذي لم يعد مجرد عسكري، بل جدارًا من الإهمال العالمي، والتخلي الوطني، والخذلان الجماعي؟

الناس هناك لا يطلبون المستحيل. لا يريدون سلامًا فوريًا، ولا عدالة انتقالية، ولا مؤتمرات دولية.

يريدون فقط أن يأكلوا.

أن يحظوا بوجبة تسكت بكاء طفل.

أن لا يختاروا بين الخبز والكرامة.

أن لا يُدفنوا في صمت لأنهم وُلدوا في المدن الخطأ.

كادوقلي، الدلنج، الفاشر… ليست مدنًا تحت الحصار فحسب. بل مرآة سودانية تنعكس فيها كل خيباتنا، وأكفاننا التي نحملها بأنفسنا ونحن أحياء.

 

Exit mobile version