الفاشر

 

الفاشر لم تعد مدينة محاصَرة فقط، وإنما أصبحت العنوان الأوضح للا أخلاقية هذه الحرب التي فُرضت على أهل السودان، حيث تُختزل حياة البشر إلى أرقام في بيانات متفرقة، وتتحول لقمة العيش وجرعة الماء والدواء إلى أدوات قمع وقتل بطيء. أكثر من عامين والفاشر تعيش في سجن مفتوح، تحاصرها قوات الدعم السريع من كل اتجاه، تُغلق دروبها إلى الغذاء، وتقطع شرايينها نحو الدواء، وتتركها نهباً للجوع والخوف والقصف المتقطع.

خلال أسبوع واحد فقط، ووفق أرقام وزارة الصحة، التهمت المجاعة أرواح 63 إنساناً، أغلبهم نساء وأطفال. لكن هذه الأرقام لا تُظهر إلا قمة جبل المأساة؛ فما خفي أعظم، إذ إن عشرات آخرين يموتون بصمت في البيوت، أو في أطراف المدينة، أو في مخيمات النزوح، لأن الوصول إلى المستشفى أصبح مغامرة لا يجرؤ عليها كثيرون، وسط طرق محفوفة بالعنف، ونقاط تفتيش لا تسمح بمرور حتى سيارات الإسعاف.

في مراكز الإيواء، المشهد أكثر قسوة. أكواخ مزدحمة بأجساد منهكة، لا طعام فيها سوى القليل الذي لا يسد الرمق، ولا دواء إلا ما تبقى في حقائب بعض المتطوعين. أطفال بعظام بارزة وعيون غائرة، وأمهات يراقبن أبناءهن وهم يذبلون يوماً بعد يوم، بلا قدرة على إنقاذهم. وحتى الماء، الذي هو أبسط ضرورات الحياة، صار سلعة نادرة، يقطر على المحتاجين قطرات لا تكفي للشرب، ناهيك عن الطهو أو النظافة.

الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصَرة، بل جرح مفتوح في جسد السودان، ومرآة لما يمكن أن تبلغه الحرب من انحدار أخلاقي حين تتحول إلى معاقبة المدنيين على صمودهم أو على مجرد وجودهم. العالم كله يرى ويسمع، لكنه يكتفي ببيانات القلق والتنديد، وكأن حياة النساء والأطفال في هذه المدينة ليست سوى فصل عابر في كتاب المآسي الإفريقية.

إن كسر الحصار عن الفاشر لم يعد شأناً سياسياً ولا مطلباً تفاوضياً، بل أصبح واجباً أخلاقياً لا يحتمل التأجيل. فكل ساعة صمت إضافية تعني طفلاً آخر يموت جوعاً، وأماً أخرى تُدفن قلبها قبل أن تدفن جسد ابنها، وأسرةً جديدة تُمحى من السجل الإنساني. والسؤال الذي يجب أن يلاحق الضمائر جميعها: كم جثة أخرى يحتاجها العالم ليتحرك؟ وكم من الوقت يمكن لمدينة أن تظلَ واقفة على حافة الفناء.

Exit mobile version