“فضيحة فساد جديدة” تكشف فوضى التعليم في زمن الحرب
حين سُرقت أحلام الأطفال بكاميرا وطابعة
شهادات مزيفة ومغالطات بين “مؤسسة مداد” والوزارة والضحية مئات الطلاب
مداد: شهاداتنا معتمدة.. والوزارة: لا نملك إدارة تعليم إلكتروني
أولياء الأمور: سنلجأ للقضاء لينصفنا.. والمدرسة تقول إنها عرضة لحملة ممنهجة
أفق جديد
ينتظر مئات الطلاب ممن جلسوا لامتحانات شهادة الأساس والمتوسطة عبر الإنترنت (أونلاين) مصيرًا مجهولًا، بعد أن اكتشفوا أن الشهادات التي منحتها لهم مؤسسة مداد التعليمية غير معترف بها، ولا تؤهلهم للانتقال إلى المرحلة التالية، ما دفعهم لطرق الأبواب واستقصاء حقيقة الأمر لدى وزارة التربية والتعليم الاتحادية، وتوجت رحلة البحث هذه بجملة مغالطات واتهامات بين الطرفين، ودخلت لجنة المعلمين كطرف ثالث متهمة مؤسسة مداد بـ”الطفيليين” الذين استغلوا الفراغ القانوني، ونصبوا فخًا للطلاب عبر امتحان أبسط ما يوصف بأنه بدعة .
والأكثر إثارة أن وزارة التربية والتعليم الاتحادية نفت في الأصل وجود إدارة امتحانات إلكترونية ضمن أقسامها، وأنها لم تجرِ أي امتحان من هذا النوع، بينما أصرت إدارة مداد على أنها مؤسسة تعليمية نظامية وقانونية، وأن هذه الامتحانات يتم الإشراف عليها عبر لجنة ومراقبين وكنترول من داخل الوزارة، وأنها فقط مركز للامتحان، وتعد وسيطًا يقوم بتسليم الشهادات للطلاب مجانًا من غير مقابل لتخفيف الأعباء على الأسر .
وفي ظل هذه الاتهامات المتبادلة يتأهب أولياء أمور التلاميذ لتدوين بلاغ جنائي ضد مؤسسة المداد التعليمية، كونها منحتهم شهادات مزيفة، واضطرت الطلاب لإعادة العام الدراسي في المرحلتين الأساس والمتوسطة .
ووصفت مداد الحديث عن الشهادات غير المعتمدة بأنه حملة إعلامية ضد المؤسسة، وتوعدت هي أيضًا للتصدي لها وفق الإجراءات القانونية، وعقدت مساء أمس اجتماعًا مع أولياء الأمور لمناقشة هذه القضية، وصف بأنه لم يضف أي جديد في الملف، وأن اللغط حول الاعتماد ما يزال مستمرًا، مرجحين أن الحسم سيكون بيد القضاة.
تجهيزات مغايرة بعيدة عن الواقع
تنحصر الترتيبات التي تسبق امتحانات الشهادة السودانية في جميع مراحلها أساس متوسط ثانوي، في أربع خطوات: الحصول على رقم الجلوس، تحديد المركز الذي يضم قاعة الامتحان، بجانب الرسوم والدخول للامتحان في الزمن المضروب .
وفي الوقت الذي انهمك فيه الطلاب داخل وخارج السودان لتحقيق ذلك كانت هنالك تجهيزات مغايرة ومن نوع خاص انفردت بها مؤسسة المداد التعليمية، تتمثل في كامرتي مراقبة وطابعة لإجراء امتحان إلكتروني من غرفهم الخاصة بالمنازل، حيث يتم تسكين الامتحان وإرساله ثانية للمؤسسة.
وخضعت هذه المجموعة من الطلاب التابعة لمداد لامتحان شهادة المتوسطة والأساس في نفس توقيت امتحانات ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر، مع اختلاف أسئلة الامتحان تقديرًا للخصوصية، حسب تبريرات مداد.
وتم إعلان نتائج هؤلاء الطلاب الذين جلسوا من الإمارات والسعودية وعمان وقطر ومصر، في مؤتمر صحفي أعقب المؤتمر الرسمي لوزارة التربية والتعليم.
وتدير المؤتمر إدارة خاصة داخل الوزارة تسمى إدارة الامتحانات الإلكترونية، حسب معلومات أولياء أمور التلاميذ التي استقوها من مؤسسة مداد التعليمية، التي أشرفت بدورها على تلك الامتحانات المنزلية لتلاميذها الذين درسوا (أونلاين) بنظامين مكثف وممتد.
أرقام جلوس خاصة تثير الشك
أبلغ “أفق جديد” والد إحدى التلميذات اللائي جلسن امتحان شهادة الأساس شهر ديسمبر 2024، تبع ولاية البحر، أن ابنته خاضت تجربة الامتحان الخاص، وأكملت الامتحان الذي تم داخل غرفة بالمنزل، مؤكدًا أن مؤسسة المداد ألزمتهم بشراء كاميرات مراقبة وطابعة، مضيفًا: “اجتهدنا لتحقيق الخطوة، ولم نكن نعلم أن الامتحان بهذه الطريقة غير مصدق به من الوزارة”.
وأفاد بأن الطلاب الذين امتحنوا في نهر النيل استلموا إفادات فقط من دون أي شهادة من الوزارة، قائلًا إن عددًا كبيرًا من المدارس رفضت التعامل مع تلك الشهادة، ما اضطر التلاميذ لإعادة السنة الدراسية.
وقال والد الطالبة أن أرقام الجلوس تأخرت بسبب أن ولاية البحر الأحمر استدعت الكنترول الذي أقام امتحانات (الأونلاين) بولاية نهر النيل لتجسيد التجربة في بورتسودان، مضيفًا: “استلمنا أرقام جلوس مختلفة عن أرقام الطلاب، وعندما سألنا عن السبب أكدوا لنا إنها أرقام تخص إدارة التعليم الإلكتروني في الوزارة”.
واستطرد بالقول: “تفاجأنا أن الامتحان مختلف عن امتحان شهادة طلاب الأساس بولاية البحر الأحمر، وأجابوا بأن الامتحان تمت طباعته في بورتسودان بغرض السرية وعدم التسرب”.
وزاد والد التلميذة الذي فجر القضية وأصر على تصعيدها: “عندما طلعت الشهادة ذهب عدد من أولياء الأمور للوزارة بولاية البحر الأحمر لمعرفة نتائج أولادهم، وأبلغوهم بأنه لا توجد أرقام جلوس بهذا الشكل، وعندما عادوا للمدرسة مجددًا أخبروهم بأنهم تابعين لمكتب في أم درمان بمحلية كرري، عند موظف تم تكليفه بهذه المهمة من قبل وزارة التربية الاتحادية”.
وحوى التعميم المكتوب الذي تحصلت “أفق جديد” على نسخة منه اسم الموظف ورقم تلفونه، ما سهل مهمة المجلة لطرح أسئلة على الرجل عبر الواتساب، للتأكد من أنه مكلف فعليًا من قبل وزارة التربية لاستخراج شهادات أولئك الطلاب الحائرين، بيد أنه قرأ الرسائل وتحفظ على الرد.
وقال والد التلميذة إنه بدأ البحث لحسم أسئلة كثيرة، من بينها هل هنالك إدارة حقيقية للامتحانات الإكترونية، وهل هذه الشهادة معترف بها؟ مؤكدًا أنه تواصل مع وكيل الوزارة وأبلغه بأنه ليس على علم بأي امتحانات عبر الإنترنت. وقال إن هذا القسم غير موجود في الأساس.
وأكد في يوم الأمس 10 أغسطس، التقت مجموعة بوكيل الوزارة في مكتبه، وناقشت معه الموضوع. وأنها ترتب للدفع بشكوي وتحويل الأمر لمسار قانوني. غير إنه عاد ليقول إن مدرسة مداد مجتهدة للغاية ومنضبطة في المواعيد، ورفعوا مستوى التلاميذ بصورة ملحوظة، مردفًا: “أنا أتحفظ على الشهادة، ونتمنى حل المشكلة في أقرب وقت”.
وتُعد مؤسسة مداد حسب صفحتها على منصة “فيسبوك” مدرسة إلكترونية تشمل رياض أطفال ومدارس تعليمية متخصصة في تعليم المناهج السودانية، بالتنسيق مع عدد من الجهات ذات الصلة -لم تسمها -لتمكين الطلاب من جميع الجنسيات من إكمال تعليمهم بشكل نظامي وفق نظام التعليم بالسودان.
ويقول ولي امر طالبين بالسعودية امتحنا (أونلاين) في مؤسسة مداد أساس ومتوسط، إنه استلم شهادات إلكترونية فقط لأنه لم يدفع رسوم الامتحان، وهي عبارة عن 500 ريال سعودي نتيجة لشكه حيال طريقة الامتحان، قائلًا والدهشة تتملكه: “لم أسمع بهذه الطريقة من قبل. ولماذا يخضعون الطلاب لامتحان مختلف عن جميع الطلاب”.
وأكد أن الطلاب الذين تسلموا شهاداتهم لم تتجاوز أعدادهم التسعة طلاب، وحتى الذين استلموها رفضت المدارس قبولهم، موضحين أن الشهادة غير معتمدة، وأبرزوا لهم نوعًا من الشهادات المعتمدة، وقالوا لهم يجب أن تتحصلوا على شهادات مماثلة.
وذكر أن أهالي الطلاب أنشأوا قروبًا على منصة “واتساب” لمناقشة الأمر. وقال اتضح عبره أن جميع الأسر دفعوا رسوم التوصيل عبر خدمات البريد السريع، مضيفًا: “قمنا باستشارة عدد من الموظفين داخل وزارة التربية وأبلغونا بأن امتحان الطلاب عبر الإنترنت أمر غير متبع في الوزارة”.
وأفاد أن أكثر أولياء الأمور في حالة صدمة غير مصدقين أن الشهادات وهمية، ويتمسكون بالأمل في أن تحل هذه المشكلة عاجلًا، مشيرًا إلى أن ضغوطات الحرب لعبت بعقول الناس، وأن الاستخفاف بهم واستغلالهم بات أمرًا سهلًا وعاديًا.
بيانات متلاحقة.. اتهام ودفاع
وصفت لجنة المعلمين السودانيين في بيان أصدرته في 8 أغسطس 2024، مؤسسة مداد التعليمية بالطفيليين الذين استغلوا الفراغ القانوني واللائحي والإداري، واتهمت مداد بأنها خدعت أولياء الأمور وأبناءهم وتلاعبوا بمستقبل من يقع فريسة لهم.
وذكر البيان أن مداد عقدت امتحانات المراحل (سادس وثالث متوسط) إلكترونيًا، زاعمة أن هذه الامتحانات تعقد بواسطة إدارات التعليم في نهر النيل تارة، والبحر الأحمر تارة أخرى.
وأفاد البيان بعد أن عقدت هذه الامتحانات وطالب أولياء الأمور بالشهادات، بدأت في التسويف والادعاء بوجود مشاكل لدى الإدارات بالوزارة الاتحادية والوزارات الولائية، وسلمت بعض الشهادات، بغرض التمويه.
وقال البيان: “بعد التواصل مع الوزارة الاتحادية نود توضيح نقاط مهمة من بينها أن هذه المدرسة عبارة عن فخ كبير للنهب والاحتيال، وقع فيه آلاف التلاميذ والطلاب السودانيين في دول المهجر. لا توجد إدارة في هيكل وزارة التربية والتعليم بمسمى (الإدارة العامة للتعليم الإلكتروني)”.
ووصف البيان الامتحانات الإلكترونية بأنها بدعة لم يتم نشر قرار باعتمادها كمرجعية، ومن المعلوم أن هذا الأمر إذا تم اعتماده فيجب أن تقوم الوزارة بإصدار قرار خاص به، مع وضع ضوابطه ومرجعياته.
واعتبر البيان الشهادات التي تم تسليمها لأولياء الأمور إما مزيفة أو تم استخراجها بطريقة ملتوية، وهذا يحتاج توضيح وبيان من وزارات التربية والتعليم في ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر.
كما طالبت اللجنة عبر البيان وزارة التربية والتعليم الاتحادية بتوضيح موقفها للرأي العام، وسفارات السودان بالدول التي حدث فيها هذا الغش والتحايل عليها، محرضًا أن تتخذ موقفًا واضحًا تجاه هذه المؤسسة وشبيهاتها ممن يستغل حاجة السودانيين في دول المهجر للتعليم، وحسم هذه الفوضى (إن لم يكن في الأمر شيئًا ما).
وحذر البيان من أن تمر هذه الحادثة دون عقاب رادع، مضيفًا: “أصبح الإفلات من العقاب مشجعًا على ارتكاب المزيد من الجرائم”.
وبالمقابل رفضت مؤسسة مداد التعليمية الاتهامات التي أطلقتها لجنة المعلمين وقالت في بيان أصدرته 8 أغسطس 2025 إنها ترفض تلك الادعاءات المغلوطة، والشائعات التي تسيء وتمس سمعة المؤسسة وتنتقص من إنجازاتها.
ولوح البيان إلى أن الرد سيكون عبر القنوات القانونية للحفاظ على سمعة المؤسسة، “ورد اعتبارها، والاحتفاظ بحق الرد على تلك الشائعات والحملة الإعلامية التي استهدفت الصرح التعليمي الذي سجل تجربة رائدة في مجال التعليم الإلكتروني”.
ودعا البيان وسائل الإعلام لزيارة موقع المنصة والاطلاع على تلك التجربة التي منحت الطلاب الحق في مواصلة التعليم.
وأكد البيان أنه لا يضيع حق الطلبة بتلك المؤسسة، كما أظهر امتنانه لأولياء الأمور الذين دعموا المؤسسة في مسيرتها.
وبحسب تسجيل صوتي لوكيل الوزارة التربية الاتحادية تحصلت عليه “أفق جديد” أقر وكيل وزارة التعليم والتربية الوطنية د. أحمد خليفة بأن الشهادات التي تلقاها التلاميذ عبر امتحانات الإنترنت الذي أقامتها مؤسسة مداد غير معتمدة.
وقال الوزير: “لا توجد لدينا إدارة للتعليم الإلكتروني بالوزارة، وإن المؤسسة غير معتمدة بالسودان ولا يوجد أي تنسيق بينها والوزارة”.
وأضاف الوزير بحسم: “من جانبنا سنبدأ في إجراءات ضد هولاء الأشخاص”، محرضًا أهالي الطلاب المتضررين بالتقدم بشكوى رسمية في مكتبه ضد هذه المؤسسة.
لكن مؤسسة مداد التعليمية رمت بقفاز التحدي أمام الوزارة، وتصر على أنها معتمدة رسميًا، وأنها تحتفظ بأوراق رسمية ومخاطبات مع الوزارة نفسها، مضيفة في حديث لـ”أفق جديد” بأنها خاطبت الوزارة في مسألة تأخر الشهادات، وأن الوزارة بررت الأمر بانشغالها بظروف الامتحانات.
وأضاقت إدارة مداد التي عقدت اجتماعًا مطولًا الأحد الماضي أن الامتحانات الإلكترونية لديها قسم داخل الوزارة، وأن تشكيل اللجنة والكنترول والمراقبين يتم بداخلها، مؤكدة أنها مركز فقط لأداء تلك الامتحانات، وأن إيصال الشهادات لأسر الطلاب خدمة مجانية تقوم بها لتخفيف الأعباء عنهم، مشيرة إلى أن ما يثار ضدها حملة إعلامية ستتصدى لها قانونيًا.
وبحسب إقرار سابق وزعته مؤسسة مداد على أسر التلاميذ الممتحنين (أونلاين) تحصلت “أفق جديد” على نسخة منه تقول الفقرة الثالثة بالإقرار (إن مؤسسة مداد التعليمية قامت بمبادرة لامتحان طلابها (أونلاين)، وتيسير الأمر لطلابها وتخفيف الأعباء عن أولياء الأمور بالتنسيق مع كل الجهات ذات الصلة. وتضيف الفقرة “بحمد الله امتحن الطلاب وتم استلام الشهادات، وتحملت مؤسسة مداد جميع الرسوم الإدارية المتعلقة بذلك من لجان كنترول وحوافز فريق العمل، عدا الرسوم المقررة من الوزارة يلتزم ولي الأمر بدفعها”.
وجاء الإقرار لإخلاء طرف المؤسسة من أي طالب يلجأ للامتحان حضوريًا عبر أي سفارة في دول الخارج.
منسقة الإعلام بمؤسسة مداد تقى طارق سيد، في معرض رده على سؤال “أفق جديد”: “هل أنتم ضحية لشبكة إجرامية داخل الوزارة”، اكتفى بالقول: “إننا مؤسسة نظامية، وأن كثيرا من الطلاب استلموا شهادات موثقة من الوزارة”.
وأكد أنهم تلقوا ردًا من الوزارة بشان تأخير شهادات الطلاب، وأنها أكدت انشغالها بظروف الامتحانات، ورفضت منسق الإعلام تقى تمليك “أفق جديد” نسخة من رد الوزارة، مؤكدة أنه سينشر عبر المنصة التي تديرها مداد”.
الجدير بالذكر أن الشهادات التي تحصل عليها بعض الطلاب موثقة من وزارة الخارجية، ومختومة من قبل إدارة التقويم والامتحانات، بعضها من ولاية البحر الأحمر، وأخرى من نهر النيل، وهي خالية من ختم وزارة التربية الاتحادية، كما أن ترويسة الامتحان عبر الإنترنت جاءت على النحو التالي: جمهورية السودان ولاية البحر الأحمر وزارة التربية والتوجيه – إدارة التقويم والامتحانات، وتارة تكون ولاية نهر النيل حسب موقع الامتحان.