الظل الطويل.. مناوي في رقصة التيه
الزين عثمان
“لا أستطيع الحديث بسبب الجوع، وبسبب الجوع لا يمكنكم الاستماع… قوموا لصلاتكم يرحمنا الله”. بهذه الكلمات رسم خطيب الجمعة في أحد مساجد الفاشر صورة مكتملة لمدينة محاصرة بالحرب: موت، وتشريد، وجوع.
كشف بذلك عن صراع يحوّل المدنيين إلى أوراق مساومة في معارك سياسية وعسكرية، بينما يتنافس المتحاربون على كسب الأرض، تاركين سكانها للجحيم.
تحولت الفاشر لنقطة ملتهبة في سودان الحرب، وجحيمًا غير قابل للجدال، الذي يحسمه مسؤول “تكية الفاشر” محيي الدين شوقار. وتكية الفاشر، هي أحد التكايا التي توفر الطعام للآلاف من المحاصرين في المدينة، معلنًا في تدوينة على “فيسبوك” التوقف عن استقبال الدعم المالي لصالح التكية، فلم يعد في الأسواق ما يمكن شرائه.
على تخوم جحيم الفاشر يشتد الجدال حول المرتزقة من “كولومبيا”، حيث تتهم السلطات في بورتسودان الإمارات العربية بتمويل ورعاية الدعم السريع ومرتزقته للقتال في السودان، الأمر الذي ظلت تنفيه الإمارات مرارًا وتكرارًا.
وبث تلفزيون السودان الرسمي تقريرًا عن قتل حوالى 40 منهم في مدينة نيالا بضربة نفذها سلاح الطيران، ما دفع برئيس كولومبيا غوستافو بيترو للخروج والتعليق عبر تغريدة وجه من خلالها سفيرة بلاده بالقاهرة بالتحقق عما حدث، وطالب حكومة السودان بالتعاون في نقل رفاة الكولومبيين لإعادة دفنهم في بلادهم.
إلا أن قوات الدعم السريع نفت وجود المرتزقة، ووصفت الحديث عن مشاركتهم في صفوفها بالدعاية التي يطلقها “الفلول”.
في ظل هذه الأوضاع المشتعلة ثمة من يتحدث عن “ارتزاق” من نوع آخر، ارتزاق يوظف معاناة الناس لتحقيق الرفاه الذاتي لأصحابه، وهم يحتفظون بألقاب كونهم قادة ممسكين بخيوط اللعبة، أو لاعبين يستطيعون اللعب بالبيضة والحجر في وقت واحد.
عن “بطل” لكن بعيدًا عن ساحة المعركة، وفي ساحات الجدل التي لا تنتهي يسبقه النداء “مني أركو مناوي”.
الأسبوع الفائت يسمي أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، المقيم في بورتسودان مصطفى تمبور والي وسط دارفور، الموجود ببورتسودان أيضًا، حاكمًا مكلفًا للإقليم إلى حين عودته.
وذلك قبل أن يحزم حقائب سفره مغادرًا نحو أوروبا، السفر الذي أعاد الناس سنوات للوراء حين غادر مناوي الخرطوم تاركًا منصب كبير مساعدي الرئيس المخلوع عمر البشير للتمرد على السلطة المركزية من جديد.
الأمر الذي دفع البعض للقول إن حليف عبد الفتاح البرهان والجيش في معركة الكرامة، قرر الخروج في طريق اللا عودة وربما الالتحاق بالطرف الآخر من معادلة الحرب.
إلا أن مناوي نفى هذا التوجه، معلنًا التزامه بالعمل على الحفاظ على وحدة السودان وتحرير كامل إقليم دارفور، وهو الذي سبق وأن وصف الحكومة التي أعلنت عنها مكونات تحالف السودان التأسيسي “بحكومة الأساطير”.
لكن رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي المنتقل من الحياد للتحالف مع الجيش في معركته ضد الدعم السريع، المنتقل من الخرطوم لبورتسودان، بدا وكأن الرمال تتحرك من تحته.
وصبيحة إعلانه عن عزل عدد من قيادات حركته عبر بيانات، أعلنت هذه المجموعة في مؤتمر صحفي في كمبالا بأوغندا عزله من منصبه وتشكيل كيان جديد بغرض الدعوة لمؤتمر عام، دون أن تنسي أن تطلق قذائف هجومها على مناوي ومواقفه التي جعلت من الحركة مجرد أداة في يد الجيش، يحقق من خلالها تطلعاته السلطوية، وهو نهج مفارق لقيم الحركة التحررية وفق تعبيراتهم.
مناوي العاجز عن إجابة سؤال موقعه في اللحظة الراهنة سيجد نفسه محاصرًا بسؤال أين سيقف في المستقبل القريب.
ومناوي الذي يشغل منصب حاكم دارفور على الورق في سلطة لا تملك سيطرة فعلية على الإقليم، في ظل تمدد قوات الدعم السريع هناك وسيطرتها على معظم المدن في الإقليم المضطرب، بينما يرى البعض أن الاضطراب في دارفور قد يكون أخف وطأة من الاضطراب في مسرح بورتسودان السياسي. حيث تهتز الكراسي تحت الجالسين فوقها ولا أحد يضمن مقعده بما في ذلك رئيس مجلس السيادة، وهي الحالة التي تفسر انتهاج مناوي لأسلوب “المناورة” في التعاطي مع المشهد السياسي، وبالطبع مع تحالفه مع بورتسودان.
الرجل يشعر بالريبة أكثر من إحساسه بالارتياح، فلا شيء مضمون لا وضوح للرؤية ولا مرجعية لقرار، وشبكات المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية وحتى الجهوية تضيف للمشهد تعقيدًا أكثر مما هو عليه.
ورغم ذلك فإن مناوي مضطر للبقاء هنا، حتى لو كان البقاء مكلفًا، فالخروج من بورتسودان أكثر كلفة، وذلك للحفاظ على إمبراطوريته الاقتصادية التي بدأت حركته في صناعتها في مشروع لوراثة الدعم السريع في مناجم الذهب وأنشطة الاقتصاد.
في المقابل فإن مغادرة مناوي والتحاقه بالمعسكر الآخر سيكون أيضًا خطوة مكلفة جدًا رغم أن البعض يستبعدها في الوقت الراهن لطبيعة الصراع الدائر في دارفور بمحمولاته العرقية.
ورأي آخر يقول إن المغادرة قد تمنحه بعض التنفس في الوقت الراهن، ومن الممكن أن تجعل منه بطلًا لدى جهات معينة، لكنها في المقابل ستخنقه في المستقبل القريب، فهو يبدو كالعالق بين مشروعين شرقًا حيث الاختناق وغربًا حيث يتمدد مشروع في دارفور قد لا يستطيع هو السيطرة عليه وتوجيه دفته إلى حيث يريد. وتتفاوت درجة الصعوبة وسط تجاذبات إقليمية ودولية للقضية السودانية.
في الوقت الذي يقول فيه البعض إن مغادرة بعض القيادات من حركة مناوي وإمكانية التحاقهم بتحالف تأسيس قد تكون تمت بمباركة المارشال مناوي نفسه في سياق مشهد المناورة الذي ينتهجه، بينما يستبعد مقربون من الرجل إمكانية التحاقه بقوات الدعم السريع وهو أمر أشبه بالمستحيل في ظل الواقع الراهن، وأن الحديث عن التحاقه بالدعم السريع هو مجرد محاولة لدق أسفين بين مكونات حرب الكرامة الوجودية. وكذلك دق أسفين في مشروع الحفاظ على وحدة السودان، كاشفين أن مناوي عرضت عليه ملايين الدولارات من أجل اختيار معسكر الدعم السريع من الرعاة الإقليميين لكنه اختار معسكر الدولة، ودفع فاتورة الحفاظ عليها بالمشاركة في معارك التحرير. وهو على استعداد لدفع المزيد مستقبلًا، ويشير ذلك إلى تمسكه بمعسكر بورتسودان على حساب معسكر نيالا.
لا يبدو مناوي مثلما هو في خطاباته ذات الطابع “الكوميدي” خلف الضحكات التي يرسلها. والرجل يخفي مقدرات سياسية فذة طورها طول فترة وجوده في المسرح السوداني وتنقلاته بين المواقف، فمن حليف لنظام المؤتمر الوطني وجالس في قصر البشير إلى متمرد على ذات البشير في وقت لاحق.
ومن بعد ذلك حليف لثورة ديسمبر التي أسقطت نظام البشير، وجزء من تحالف قوى الحرية والتغيير، ليصبح بعدها مقربًا لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميدتي بعد اتفاقية جوبا للسلام 2020.
وكذلك كان ذو دور أساسي في انقسام قوى الحرية والتغيير، حينما أصبح قائدًا في تحالف اعتصام القصر داعمًا للانقلاب الذي نفذه “البرهان وحمدان” في أكتوبر 2021 ضد الحكومة المدنية.
وظل متمسكاً بمنصبه كحاكم لإقليم دارفور، ثم اختار الوقوف في “الحياد” عند اندلاع حرب 15 أبريل 2023، مطبقًا نظريته “شوية مع دول وشوية مع دول” قبل أن يختار في نهاية المطاف شمس “بورتسودان” الحارقة التي لم تكن لتصل إليه فهو يملك السلطة والمال الذي يقيه حرارة الطقس وانقطاع الكهرباء.
ومع كل هذه التحولات ظل مناوي حاكمًا لإقليم دارفور على الورق قبل أن تعلن ورقة أخرى في نيالا أن الهادي إدريس غريمًا له في ذات المنصب ولو بكرسي افتراضي على الورق.
مناوي يظل رمزًا وفاعلًا في المعادلة السياسية الراهنة، فهو قائد فصيل عسكري في الميدان في دولة صرح رئيسها وعلى رؤوس الأشهاد “المجد للبندقية”. يملك أركو بندقيته والقدرة على الفعل السياسي، لكنه يظل معلقًا بسؤال أي مجد يرغب فيه الآن: هل البقاء والفاعلية في سودان موحد أم الذهاب غربًا، وهو المصنف بأنه أحد حملة مشعل الحلم الدارفوري وتحت أي راية سيشعل نوره راية السودان الموحد، أم راية دولة جديدة لم يعلم مصيرها بعد.