تاريخ الحروب في السودان(1-3 )

مناضل الحلاوي

طلقة ثم الحدث

سنبلة أولى وحدس بالحصاد..

مظفر النواب

سبعون عامًا منذ أن انطلقت الرصاصة الأولى في جسد الدولة السودانية في أغسطس ١٩٥٥، التي كانت حافزًا لرصاصات أخرى ظلت تصيب جسد الدولة السودانية حتى تاريخه. قبل أن نتساءل من الذي أطلق الرصاصة الأول؟ دعونا نسترجع عجلة التاريخ لكي نقرأ المشهد قبل إطلاق الرصاصة الأولى، ونتساءل بصوت عالٍ ما الذي مهد لإطلاق الرصاصة الأولى! للإجابة عن هذا التساؤل محتاجين لجلد الذات، وهذا الجلد يحتاج لضمائر تتصل بقضايا الشعوب السودانية وتنفصل عن الأهواء الشخصية.

في هذه الحلقات سأحاول أن أتناول سردية الحروب في الدولة السودانية ليس فقط من خلال الأحداث التاريخية التي صاحبتها، ولكن يمكننا أن نطرح مسببات تلك الحروب لكي نصل من خلالها لإجابات يمكننا من خلالها أن نسكت أصوات الرصاص للأبد، وأن ننهي هذه الحروب التي أقعدت بالوطن.

إنهاء الحروب هو بالتأكيد حلم يراود كل الوطنيين من أبناء السودان، ولكن هذا الحلم يحتاج لفعل يوازي المرحلة.

اخترت في بداية مقالاتي أن ألقي نظرة عامة حول أدب الحروب في الأدب اللاتيني وأدب أمريكا اللاتينية والأدب الروسي والأدب السوداني، لأنه من خلال إلمامي المعقول لاحظت أن تأثير الأدب كان كبيرًا في تلك المناطق وأسهم بشكل كبير في تكوين رأي جمعي حول كارثة الحروب.

توطئة:

يُعدّ وصف الحرب في الأدب اللاتيني أكثر من مجرد سرد للأحداث؛ إنه تصوير عميق للتجربة الإنسانية في أقصى صورها، يعكس الفظائع، البطولة، الخسارة، والتأثيرات المدمرة على الفرد والمجتمع. تظهر هذه الأوصاف بشكل بارز في الأعمال الملحمية والتاريخية، وتتنوع في أساليبها ومقاصدها.

فيرجيل و”الإنيادة”: تصوير المأساة والبطولة

يُقدم الشاعر الروماني فيرجيل في ملحمته الخالدة “الإنيادة” (Aeneid) أحد أبلغ الأوصاف للحرب. على الرغم من أن “الإنيادة” تهدف في جوهرها إلى تمجيد تأسيس روما وتصوير القدر الإلهي، إلا أنها لا تتجنب تصوير الجانب المأساوي والوحشي للحرب.

الجانب المأساوي: يركز فيرجيل على المعاناة البشرية الناتجة عن الصراع. فهو يصف الألم والخسارة التي تصيب الأفراد، سواء كانوا منتصرين أو مهزومين. نرى ذلك جليًا في مشاهد الموت، الدمار، اليأس، والفقدان الذي يلحق بالشخصيات، مما يضفي بعدًا إنسانيًا عميقًا على الأحداث. لا يقتصر الوصف على مجرد المعارك، بل يمتد ليشمل الآثار النفسية للحرب على المقاتلين وعائلاتهم.

يختلف وصف الحرب في أدب أمريكا اللاتينية اختلافًا جوهريًا عن نظيره في الأدب اللاتيني الكلاسيكي، وذلك بسبب اختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية للمنطقة. فبينما ركز الأدب اللاتيني على الإمبراطورية والبطولة الملحمية، يعكس أدب أمريكا اللاتينية تاريخًا طويلًا من الصراعات الداخلية، والتدخلات الخارجية، والديكتاتوريات، والحروب الأهلية، والثورات.

إليك أبرز ملامح وصف الحرب في أدب أمريكا اللاتينية:

 

  1. الواقعية السحرية وتصوير الفوضى

أحد أبرز ما يميز أدب أمريكا اللاتينية، وهو أسلوب الواقعية السحرية، غالبًا ما يُستخدم لتصوير فوضى الحرب وعشوائيتها. حيث تتداخل الأحداث التاريخية المروعة مع عناصر خارقة للطبيعة أو أسطورية، مما يعكس جنون الحرب وغياب المنطق فيها. هذا الأسلوب يسمح للكتاب بمعالجة الصدمات الجماعية بطريقة فريدة، حيث يصبح المستحيل جزءًا من الواقع المؤلم.

مثال: روايات غابرييل غارثيا ماركيث، مثل “مئة عام من العزلة” (Cien años de soledad)، تصور حروبًا أهلية متتالية وعنفًا لا ينتهي، حيث تتداخل الأحداث التاريخية مع الخرافات والأساطير، مما يخلق عالمًا يعكس الدائرة المفرغة للعنف في المنطقة.

اما الحرب في الأدب الروسي ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي محور أساسي للتحليل الفلسفي والأخلاقي والنفسي. إنها تُقدم كقوة مدمرة، لكنها أيضًا فرصة لاستكشاف أعمق جوانب الطبيعة البشرية: الصمود، التضحية، القسوة، والبحث عن المعنى في عالم فوضوي. يتميز هذا الأدب بواقعيته المفرطة، وقدرته على تصوير معاناة الإنسان على المستويين الفردي والجماعي، مما يجعله تجربة قراءة مؤثرة وغالبًا ما تكون مؤلمة.

باختصار، بينما يتناول الأدب اللاتيني الكلاسيكي الحرب من منظور ملحمي وتراجيدي، يغوص أدب أمريكا اللاتينية في الفوضى والصراعات الداخلية من خلال الواقعية السحرية، ويركز الأدب الروسي على التحليل الفلسفي والنفسي والواقعية المفرطة لمعاناة الإنسان في زمن الحرب.

نظرًا للتنوع العرقي والثقافي والديني في السودان، غالبًا ما تتناول الأعمال الأدبية تأثير الحرب على الهوية الوطنية والانتماء. كيف تكسر الحرب الروابط الاجتماعية؟ كيف تفرض الانقسامات؟ وكيف تؤثر على شعور الفرد بالانتماء لوطن مزقته الصراعات؟

الحروب في السودان غالبًا ما تكون داخلية، مما يزيد من تعقيد تصويرها وتركيزها على الخيانة الداخلية، وتفتت النسيج الاجتماعي، والصراع بين أبناء الوطن الواحد..

بشكل عام، يمكن القول إن الأدب السوداني يقدم تصويرًا عميقًا ومؤثرًا للحرب، يجمع بين الواقعية القاسية لتصوير المعاناة الإنسانية، وتحليل تأثيرها على الهوية والنسيج الاجتماعي، واستخدامها كأداة نقد سياسي واجتماعي، مع لمسات من الأمل أو المقاومة التي تعكس صمود الشعب السوداني.

نقرشات على جدار التاريخ :

من الملاحظ ظهور حركات مقاومة قبل الاستقلال مثل الكتلة السوداء بقيادة عثمان متولي ونائبه زين العابدين عبد التام، ورغم حصر دورها في القضايا المطلبية ومحاولتها لاحقًا جمع أكبر تحالف من قوى الهامش يؤكد بأن هناك تخوف مشروع من تلك المكونات، التي أكدت تجربة النخب التي حكمت الدولة السودانية منذ ٥٦، صدق تلك المخاوف التي يمكن أن نطلق عليها جذور المشكلة، وغياب المشروع الوطني، الذي يمكن أن يقضي على تلك المخاوف.

ولكن كان المعيق الحقيقي هو عقلية تلك النخب أو النادي السياسي القديم وقد تمثلت تلك العقلية في طريقة تفكير البرجوازية الوطنية، التي كانت تمثل وسيطًا للمستعمر، حيث نجد فرانز فانون قد قدم  نقدًا حادًا للبرجوازية الوطنية التي تظهر بعد الاستقلال، وقد وصف هذه الطبقة بأنها لا تملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا أو قدرة على الإنتاج، بل تكتفي بدور الوسيط أو “الوكيل” للرأسمالية الغربية.

هذا الوصف قد مر علي من خلال اطلاعي  في ورقة لا أذكر صاحبها كتب وقد خرج الإنجليز في الأول من يناير بعد أن تركوا جيلًا من الإنجليز السود يحكمون السودان .. جيل الإنجليز السود في تقديري هم الجلابة أو البرجوازية الوطنية..

والمقصود بالبرجوازية الوطنية هو مصطلح يصف الطبقة العليا أو النخبة التي تنشأ في البلدان المستعمَرة أو التي تخضع للسيطرة الأجنبية. هذه الطبقة تتكون عادة من رجال الأعمال المحليين، التجار، المثقفين، والقادة السياسيين الذين لديهم علاقة وثيقة بالنظام الاستعماري أو يستفيدون منه.

والمقصود بالبرجوازية الوطنية ليس مجرد طبقة اجتماعية، بل هي ظاهرة سياسية واقتصادية معقدة. إنها تُمثل فشل النضال الوطني في تحقيق أهدافه الكاملة بعد رحيل المستعمِر. حيث تستمر آليات الاستغلال والتبعية الاقتصادية. زي ما قلنا هي قوة لا تعمل لصالح الجماهير، بل لصالح مصالحها الخاصة التي غالبًا ما تتماشى مع مصالح القوى الإمبريالية الأجنبية. يعني ممكن القول بشكل عام يختلف هذا المصطلح عن معنى (البرجوازية) في النظرية الماركسية الكلاسيكية (التي تصف طبقة أصحاب وسائل الإنتاج)، لأنه يركز على دورها في سياق ما بعد الاستعمار وعلاقتها بنضال التحرر الوطني.

سم الأفعى :

تبدو الدولة السودانية منذ أحداث توريت 1955 وحتى الحرب الحالية وكأنها في دوامة من العنف والصراعات المتعددة الأوجه، التي عرقلت التنمية، وقسمت البلاد، وتركت إرثًا ثقيلًا من عدم الاستقرار والأزمات الإنسانية.

ما هي الملابسات والظروف التي هيأت لإطلاق الرصاصة في توريت :

شهدت أحداث توريت عام 1955، التي تُعتبر “الرصاصة الأولى” للحرب الأهلية السودانية، مجموعة معقدة من الملابسات والظروف التي هيأت لاندلاعها، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

  1. الإرث الاستعماري وسياسة المناطق المغلقة:

السياسة البريطانية الثنائية: خلال الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان (1899-1956)، اتبع البريطانيون سياسة “المناطق المغلقة” (Southern Policy) التي فصلت الجنوب عن الشمال إداريًا واقتصاديًا واجتماعيًا. كان الهدف المعلن لهذه السياسة هو حماية الجنوب من “التأثير الشمالي” و”العربي-الإسلامي” وتوجيهه نحو “التطور الأفريقي”.

التنمية غير المتكافئة: أدت هذه السياسة إلى إهمال تنمية الجنوب مقارنة بالشمال، مما خلق فجوة كبيرة في التعليم والصحة والبنية التحتية والوظائف.

الاختلافات الثقافية والدينية: تعمقت الفروق بين الشمال، والجنوب، مما أدى إلى شعور بالاستقطاب وعدم الانتماء المشترك.

  1. التحول نحو الاستقلال والمخاوف الجنوبية:

الاستقلال الوشيك: مع اقتراب موعد استقلال السودان في يناير 1956، زادت مخاوف الجنوبيين من هيمنة الشماليين على السلطة والثروة.

الوحدة المفاجئة: في عام 1947، قرر البريطانيون إلغاء سياسة المناطق المغلقة وضم الجنوب إلى الشمال في إطار دولة سودانية موحدة، وذلك بعد أن كانت هناك مؤشرات على احتمالية دمج الجنوب في شرق أفريقيا البريطانية. هذا التغيير المفاجئ أثار قلق الجنوبيين الذين شعروا بأنهم لم يتم استشارتهم بشكل كافٍ ولم تُؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار.

الوعود غير المحققة: كانت هناك وعود من الشماليين خلال المفاوضات بإنشاء نظام فيدرالي يمنح الجنوب حكمًا ذاتيًا واسعًا بعد الاستقلال، ولكن هذه الوعود لم يتم الوفاء بها بشكل مُرضٍ للجنوبيين.

 

                    يتبع..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى