على حافة الانهيار الأمني

عثمان فضل الله

 تقف البلاد اليوم على حافة هاوية بلا قاع.. هذه العبارة قد لا تكون بحجم ما يحدق بالبلاد من مخاطر.

أخبار متناثرة وتقارير متواترة تؤشر إلى مستقبل من الجحيم ينتظرنا، ونحن في غفلة من أمرنا، فالمعركة الآن يجب أن تصوب إلى وجهتها الصحيحة، والعدو فيها هو كل من ينادي باستمرار هذه الحرب اللعينة، فما خلفته من مآسي وآلام شيء، وما حمله تقرير فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات التابع للأمم المتحدة أمر آخر.

 فالتقرير الصادر في يوليو المنصرم ما كشفه ليس مجرد إحصاءات وأرقام جافة، بل شهادة موثقة على أن الحرب لم تعد صراعًا على السلطة فحسب، بل بوابة مفتوحة أمام الإرهاب والجريمة المنظمة لابتلاع ما تبقى من الدولة. كل يوم يمر دون كسر هذه الدائرة الجهنمية هو يوم يرسّخ نفوذ أمراء الحرب، ويمد جسور التهريب والتجنيد نحو جيل كامل من الشباب اليائس.

إنّ ترك السودان ينزلق إلى مصير مالي أو الصومال ليس خياراً، بل وصمة عار على جبين المجتمع الدولي والإقليمي. قبلهم نخبه العسكرية والسياسية والأكاديمية. المطلوب ليس بيانات قلق جديدة، بل فعل حاسم يقطع شرايين الحرب، ويعيد للدولة قدرتها على حماية شعبها. والتاريخ لن يرحم من تفرج على الخراب وهو يتمدد حتى ابتلع كل شيء.

فراغ أمني

يشير تقرير فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات التابع للأمم المتحدة بوضوح إلى أن الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع أدت إلى تراجع خطير في قدرات الدولة الأمنية، ما أوجد فراغًا واسعًا في مناطق متعددة. هذا الفراغ، وفق الأمم المتحدة، أتاح لتنظيمات إرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” البحث عن موطئ قدم داخل الأراضي السودانية، مستغلة تشتت السلطة وتفكك الأجهزة الأمنية.

وتؤكد الوثيقة أن هذه التنظيمات لا تتحرك بعشوائية، بل تستند إلى خطط مدروسة تشمل الاستفادة من النزاعات المحلية، وتوسيع شبكات التهريب، وتعزيز قدراتها على التجنيد عبر الإنترنت والمنصات الإعلامية الموجهة إلى مناطق النزاع.

 تمدد إرهابي

 يرصد التقرير نشاطًا ملحوظًا للجماعات الإرهابية في القارة الإفريقية، مع تركيز متزايد على السودان باعتباره ممرًا ومركزًا محتملًا للعمليات. ويكشف عن استخدام هذه الجماعات خطابًا دعائيًا مكثفًا بلغات متعددة، يحثّ على الانتقال إلى إفريقيا والانضمام إلى ساحات القتال هناك. ويشير كذلك إلى أن المواد الإعلامية لهذه التنظيمات باتت توظف تقنيات حديثة، مما يزيد من سرعة انتشارها وصعوبة مواجهتها.

كما يربط التقرير بين هشاشة الأوضاع الأمنية في السودان وتزايد خطر تحوله إلى محطة عبور لعناصر متطرفة تتنقل بين مناطق النزاع في إفريقيا، ما قد يرفع مستوى التهديد ليس داخل البلاد فحسب، بل في كامل الإقليم.

اقتصاد حرب

لا يقتصر الخطر على الجانب العسكري والأمني، إذ يلفت التقرير الانتباه إلى تنامي اقتصاد الحرب داخل السودان، مدفوعًا بشبكات تهريب معقدة. هذه الشبكات تشمل تهريب الأسلحة والذهب والبشر، وتعمل عبر مسارات تمتد إلى دول الجوار مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. وتوضح الأمم المتحدة أن هذه الأنشطة الإجرامية تموّل أطراف النزاع وتطيل أمد القتال، في حلقة مغلقة يصعب كسرها ما لم يتم استهدافها بشكل مباشر.

ويؤكد التقرير أن هذا الاقتصاد الموازي أصبح عنصرًا مدمجًا في بنية الصراع، بحيث تتقاطع مصالح بعض الجماعات المسلحة مع مصالح شبكات التهريب، ما يضاعف صعوبة تفكيك منظومة الحرب.

 نزوح وتجنيد

التقرير يقدّم أرقامًا وتحذيرات بشأن النزوح الواسع داخل السودان، مشيرًا إلى أن ملايين المدنيين اضطروا لترك منازلهم هربًا من العنف. هذا النزوح، إضافة إلى انهيار الخدمات الأساسية، يخلق بيئة مثالية للتجنيد، حيث يجد الشباب العاطلون عن العمل والمحرومون من التعليم أنفسهم أمام خيارات محدودة، أحدها الانخراط في صفوف الجماعات المسلحة أو الشبكات الإجرامية.

وتحذّر الأمم المتحدة من أن استمرار هذه الظروف دون تدخل عاجل سيؤدي إلى اتساع القاعدة الاجتماعية للتنظيمات المتطرفة، بما يجعل معالجتها لاحقًا أكثر تعقيدًا وكلفة.

تهديد إقليمي

يمتد خطر الأوضاع في السودان إلى ما وراء حدوده، بحسب التقرير الأممي، الذي يحذر من تحوّل البلاد إلى عقدة ربط بين مناطق النزاع في غرب وشرق ووسط إفريقيا. هذا الوضع يهدد بفتح ممرات لوجستية وتدريبية للتنظيمات الإرهابية، بما ينعكس على استقرار دول الجوار ويزيد من أعباء الأزمات الإنسانية في الإقليم.

وتشير الأمم المتحدة إلى أن ديناميات الحرب في السودان تتقاطع مع أنماط عدم الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، ما يخلق شبكة ممتدة من المخاطر الأمنية يصعب احتواؤها بالجهود الوطنية فقط.

ثغرات العقوبات

رغم وجود منظومة عقوبات دولية تستهدف الجماعات الإرهابية وشبكات تمويلها، يكشف التقرير عن ثغرات كبيرة في تنفيذ هذه العقوبات. فقد طورت الشبكات الإجرامية طرقًا جديدة لتحويل الأموال، مثل استخدام الوسطاء والمحافظ الإلكترونية والتعاملات النقدية غير الرسمية، ما يصعّب على آليات المراقبة الدولية تتبع حركة الأموال وتعطيلها.

ويرى التقرير أن معالجة هذه الثغرات تستلزم تنسيقًا أوسع بين الدول والمنظمات الإقليمية، وتطوير أدوات رصد أكثر فاعلية.

ما كشفه تقرير الأمم المتحدة ليس تحذيرًا عابرًا، بل جرس إنذار يدق في قلب الخرطوم وكل مدينة وقرية سودانية. الخطر لا ينتظر، والنزيف لا يعرف التأجيل. لقد آن للسودانيين، على اختلاف معتقداتهم السياسية وانتماءاتهم الأيديولوجية، أن يضعوا خلافاتهم جانبًا، ويتقدموا الصفوف لانتزاع بلادهم من فم الحرب. إن المبادرة يجب أن تكون اليوم، قبل أن تُغلق نافذة الخلاص، وقبل أن يصبح الغد أثقل بالدمار وأفقر بالأمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى