الفيدرالية المالية في السودان

من نيفاشا إلى جوبا وتحديات الحاضر

 

2/اغسطس/2025

 محمد عمر شمينا

طرحت اتفاقية نيفاشا للسلام الموقعة عام 2005 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، تصورًا جديدًا للعلاقة بين المركز والأقاليم، على أساس نظام فيدرالي يتضمن قسمة للسلطة والثروة. في قلب هذه الفكرة كانت الفيدرالية المالية: كيفية توزيع الموارد والإيرادات العامة بين الحكومة المركزية وحكومة جنوب السودان، وباقي الولايات. مثّلت هذه الخطوة خروجًا على المركزية الصارمة التي وسمت الدولة السودانية منذ الاستقلال، لكنها في الوقت نفسه وضعت على الطاولة إشكالات كبيرة تتعلق بالعدالة والفعالية والقدرة المؤسسية.

الفيدرالية المالية لا تعني فقط قسمة المال، بل تعني بالضرورة وجود نظام متكامل لتوزيع السلطات المالية، ووجود مؤسسات محلية قادرة على إعداد الميزانيات، تحصيل الإيرادات، وتقديم الخدمات. كما تتطلب وجود معايير واضحة لتوزيع الموارد الوطنية، تقوم على الحاجة والعدالة، لا على القوة السياسية أو القدرة التفاوضية. في تجربة نيفاشا، تم اعتماد مبدأ قسمة الثروة بنسبة 50% من عائدات النفط المنتَج في الجنوب، مما مكّن حكومة الجنوب من تمويل أجهزتها وخدماتها. لكن هذه الترتيبات ظلت رهينة العلاقة الثنائية بين الطرفين، دون أن تتطور إلى سياسة قومية لتوزيع الموارد بين كافة الأقاليم. كما أن الاعتماد شبه الكامل على النفط كشف هشاشة التجربة حين انخفضت الأسعار، ثم انفصل الجنوب لاحقًا ومعه 75% من الموارد النفطية، تاركًا السودان أمام سؤال لم يُجب عليه بعد: كيف نبني فيدرالية مالية دون موارد مستقرة وعدالة توزيعية واضحة؟

النموذج الأمريكي يُستشهد به كثيرًا كمثال ناجح للفيدرالية المالية، حيث تحتفظ الولايات بسلطات واسعة في وضع ميزانياتها وتحصيل بعض الضرائب، بينما تحتفظ الحكومة الفيدرالية بضرائب الدخل والجمارك، وتعيد توزيع جزء منها عبر صناديق ومعادلات تأخذ في الاعتبار حجم السكان ومستوى التنمية. لكن هذا النجاح بُني على قاعدة دستورية متينة، ومؤسسات مستقرة، واقتصاد قوي. أما في النموذج الإنجليزي، ورغم أن المملكة المتحدة ليست فيدرالية بالمعنى الدقيق، فإن تجربة تفويض السلطات إلى أسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية منذ التسعينيات وفّرت مثالاً على إمكانية منح الأقاليم سلطات مالية محددة مع الحفاظ على وحدة الدولة. ومع ذلك، فإن النموذج الإنجليزي لا يُقدَّم كخيار قابل للتطبيق في السودان، لأن الدولة السودانية بخلاف المملكة المتحدة تفتقر إلى التقاليد المؤسسية الراسخة، والحد الأدنى من الإجماع الوطني حول وحدة الدولة، ناهيك عن غياب جهاز بيروقراطي كفؤ قادر على تنفيذ السياسات المالية على المستوى المحلي.

وإذا انتقلنا إلى السياقات الأقليمية المجاورة للسودان، نجد في إثيوبيا أو نيجيريا مثالين مهمين لفهم مزايا ومزالق الفيدرالية المالية. ففي إثيوبيا، تأسس النظام الفيدرالي منذ أوائل التسعينيات على أسس قومية، ومنح الأقاليم الإثنية سلطات واسعة تصل إلى حد الحق في الانفصال، بما في ذلك سلطات مالية وتشريعية. ورغم ما وفره هذا النموذج من اعتراف بالتنوع، فقد أدى في النهاية إلى مزيد من التشرذم والحروب، حيث تحوّلت السلطة المالية إلى أداة للصراع القومي وليس للتنمية المشتركة. أما نيجيريا، التي تعتمد فيدرالية مالية تقوم على توزيع عائدات النفط بين المركز والولايات، فقد واجهت تحديات خطيرة تتعلق بالفساد، وغياب العدالة في توزيع الثروة، وتضخم الجهاز الحكومي المحلي، مما قاد إلى توترات مستمرة بين الأقاليم. هذان النموذجان يقدمان دروسًا للسودان: أن الفيدرالية المالية لا تضمن الاستقرار أو العدالة بالضرورة، إن لم تُبْنَ على قواعد واضحة ومؤسسات فعالة وإرادة وطنية جامعة.

أما اتفاقية جوبا للسلام، فقد سعت إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المركز والأقاليم من خلال ترتيبات فيدرالية أوسع، نصّت على قسمة الثروة وإنشاء صناديق تنمية ومنح سلطات محلية واسعة. لكنها، مثل تجربة نيفاشا، اصطدمت بغياب الدولة القادرة على التنفيذ، إذ لا تزال الموارد الكبرى تحت سيطرة المركز، ولم تُبنَ مؤسسات محلية مستقلة وقادرة على إدارة هذه الصلاحيات. والأهم من ذلك، أن الاتفاقية لم تُؤسس لنظام ديمقراطي تعددي حقيقي على المستوى المحلي، بل تعاملت مع الفيدرالية كأداة لتقاسم السلطة بين المركز والحركات المسلحة، لا كنموذج حكم يوسع قاعدة المشاركة والمساءلة. والحال أن الفيدرالية المالية ليست مجرد آلية لتوزيع الموارد، بل تعبير عن مبدأ ديمقراطي يقوم على تمكين المواطنين من صنع القرار في أقاليمهم، وتحديد أولويات التنمية وفقًا لاحتياجاتهم، ومساءلة حكوماتهم المحلية. وكلما كانت الفيدرالية قائمة على مؤسسات فعالة، ومعايير شفافة، وإرادة وطنية جامعة، كلما ساهمت في ترسيخ الشرعية وتخفيف النزعات الانفصالية، وبناء نظام ديمقراطي متعدد المستويات يُعيد ثقة المواطنين في الدولة، ويمنحهم صوتًا حقيقيًا في إدارة شؤونهم.

ولعل من أبرز عيوب اتفاقية جوبا أنها تعاملت مع الفيدرالية كأداة لتقاسم السلطة بين المركز والحركات المسلحة، بدلاً من أن تكون نظام حكم فعّال يُبنى على أسس وطنية تشمل جميع الأقاليم والمواطنين. لم تُنشأ أي آليات عملية لضمان عدالة توزيع الموارد، ولم يتم تحديد مصادر الإيرادات بشكل واضح، ولا كيفية إدارة الضرائب المشتركة، ولا حتى أدوات الرقابة والمساءلة المالية. كما أن الاتفاقية لم تُلزم الحكومة المركزية بتحويلات مالية محددة زمنياً ونسبياً، ولم تؤسس لصناديق مركزية لدعم الأقاليم الأفقر كما هو معمول به في بعض النماذج الفيدرالية. جاءت الفيدرالية المالية فيها كحزمة وعود عامة، دون خارطة طريق تنفيذية، ولا قانون قومي ينظم قسمة الثروة أو يحدد التزامات الدولة تجاه الأقاليم. بل أكثر من ذلك، فإن بعض البنود تركت تفاصيل الترتيبات المالية للمفاوضات المستقبلية أو للسلطة التنفيذية، وهو ما أفرغ الاتفاق من مضمونه العملي.

وتتضاعف هذه التحديات في ظل الحرب الراهنة، التي أعادت إنتاج النزعة المركزية القسرية من جهة، والانفصال الإقليمي الفوضوي من جهة أخرى. إن تشكيل حكومات إقليمية موازية كما يحدث اليوم في دارفور، لا يعني سوى تعميق الانقسام، وتهديد مفهوم الفيدرالية نفسه. ففي غياب الموارد الحقيقية، وبعد سنوات من تدمير البنى التحتية، تصبح الفيدرالية المالية مجرد عبء جديد على إقليم منهك، لا يملك مصادر تمويل مستدامة، ولا مؤسسات قادرة على تحصيل الضرائب أو تقديم الخدمات. وبدلاً من أن تكون الفيدرالية المالية وسيلة لإعادة بناء الدولة على أسس عدالة وفاعلية، تتحول إلى وهم يُغطي على ضعف المركز وتفكك الأطراف.

إن بناء فيدرالية مالية حقيقية في السودان يتطلب أكثر من النصوص، يتطلب إعادة بناء الدولة ذاتها: مؤسساتها، جهازها المالي، نظامها الضريبي، وآليات الرقابة والمساءلة. كما يتطلب حوارًا قوميًا حول العدالة، لا مجرد تفاوض بين النخب. فبدون ذلك، تظل كل اتفاقية سلام قابلة للتلاشي، وكل نظام فيدرالي مجرد شعار فارغ لا يصمد أمام أول أزمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى