أفق جديد – وحدة الرصد والتحليل
في بورتسودان، حيث تختلط رائحة البحر بزفير الخوف، لا يبدو أن هذه المدينة المؤقتة تصلح كعاصمة حتى ليوم واحد آخر. جدران الفنادق التي نُصبت كقصور بديلة، تصدّعها الاجتماعات المتناقضة، وتئنّ تحت ثقل التنازلات، والبيانات، والتكتيكات الطارئة. أما الميناء، الذي ظل لسنوات رئة السودان الشرقية، فقد صار الآن أقرب إلى رئة تُثقلها الرمال بدل الهواء.
هنا، يتحرّك تحالف بورتسودان، التحالف الذي تشكّل كقارب نجاة بعد غرق المركز، لكنه بدأ يفقد بوصلة النجاة نفسها. حلفاء ينامون تحت سقف واحد، لكن عيونهم مصوّبة نحو بعضهم البعض، وقلوبهم تنبض بولاءات متنافرة. مَا كان يُظنّ أنه مشروع بديل للدولة، بات أقرب إلى ظلٍّ مشوّه لها، يتآكل من الداخل أكثر مما يُهدَّد من الخارج.
بيان الكتلة الديمقراطية
الزلزال السياسي الأخير لم يأتِ من خصوم التحالف، بل من قلبه. الكتلة الديمقراطية، التي مثّلت الواجهة المدنية الأوضح ضمن التحالف، خرجت ببيان هو الأوضح والأجرأ منذ تأسيس الحلف، منتقدة خارطة الطريق التي تقدم بها القائد العام للقوات المسلحة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، التي سبق لها أن دعمتها
لكن في البيان الأخير، وصفت تلك الخارطة بأنها “مهددة لوحدة السودان”، وانتقدت صراحة تعديل الوثيقة الدستورية دون مشاورة القوى السياسية ، لم يكن البيان مجرد تحفظ، بل صفعة سياسية على وجه قيادة الجيش، ورفضاً مكشوفاً لنمط إدارة شؤون الدولة عبر الأوامر العسكرية والقرارات المنفردة وقرارات الغرف المغلقة.
في عمق هذا البيان تتكشف الحقيقة: التحالف يتحلل من شرعيته السياسية، قبل أن يفقد قوته العسكرية، فمتى ما نطق الحليف بالنقد، يكون الانفجار الداخلي قد بدأ فعلاً، لا مجازاً.
غضب مناوي
سبق هذا البيان الضربة الأولى التي جاءت أكثر وضوحًا، وأكثر وجعًا: مني أركو مناوي، أحد رموز اتفاق جوبا وحاكم إقليم دارفور، بات الآن أقرب من أي وقت مضي الى نفض يده ومغادرة بورتسودان رسميًا، والكل ينظر وينتظر ظهوره خلال الفترة المقبلة ليحدد موقفه بعد أن غادر بورتسودان وسط تكهنات، بعدم عودته إليها مجددًا.
لم يكن الخروج مفاجئًا لكنه كان كاشفًا لحقيقة أكبر وهي أن التحالف فقد القدرة على الاحتواء، ولا يملك ما يقدّمه لغير العسكريين سوى الهامش، في الكواليس، تُحكى حكايات عن توتر دائم بين مناوي وقيادات عسكرية، وعن قرارات تُمرّر دون أي تشاور مدني، وعن اجتماعيات متشنجة اختلط فيها الطموح بالمظلومية.
تهديد من الداخل
لكن كل ذلك يبدو ضئيلاً أمام ما فجّرته حادثة اعتقال قائد “كتيبة البراء بن مالك”، التشكيل المتشدد داخل التحالف، الحدث الذي كان يمكن احتواءه بهدوء، انقلب إلى ابتزاز عنيف لقيادة الجيش ذاتها، إذ انتشرت منذ اعتقال الأمن المصري للمصباح أبو زيد طلحة، كتابات على وسائل التواصل الاجتماعي تهدد قيادة الجيش وتتهمها بالتورط في حادثة الاعتقال، بينما أخفها يرى أنها غير متحمسة للحديث مع السلطات المصرية للإفراج عنه.
ووصلت التهديدات التي أطلقها منسبو الكتيبة إلى الحد الذي قال فيه أحدهم إنهم مستعدين لإحالة بورتسودان إلى رماد.
تزامن ذلك مع تهديدات علنية أطلقها شقيق الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي، إلى جانب صحفيين من ذات الدائرة. تهديدات لم تُدان، لم تُصحح، لم تُنكر، بل مرّت في صمتٍ ثقيل، صمتٌ يُشير بوضوح إلى أن قيادة الجيش عاجزة عن لجم تطرف ينبت من خاصرتها، فالعدو لم يعد هناك في صحارى كردفان ودارفور، بل هنا… في الداخل والخطر لم يعد خارجيًا، بل تسلل من الأبواب الخلفية، بأصوات مكشوفة، وولاءات لا تخجل.
شرعية مفرغة
في بورتسودان، لم تعد الشرعية تُقاس بحجم المؤتمرات أو البيانات، بل بحجم الفجوات داخل التحالف نفسه. مكوّنات مدنية تتحرك بين الفنادق بملامح منهكة، تُستدعى فقط حين يُراد تحسين المشهد أمام المجتمع الدولي، ثم تُستبعد من صنع القرار الحقيقي، يقول أحد السياسيين المقربين من الكتلة الديمقراطية، في “جلسة ونسة” جمعته إلى آخرين “نحن مجرد ديكور… يُستخدم حين يُراد التحدث عن المدنية، ويُركن جانبًا حين تحين لحظة القرار.”
هكذا، تُختصر أزمة التحالف، واجهة مدنية بلا سلطة، وسلطة عسكرية بلا مشروع، وتحالف بلا توافق.
رمال متحركة
ليس غريبًا أن تكثر الاجتماعات وتقل النتائج، أن تتضخم الخطب، ويختفي الفعل، أن تنقسم الغرف على نفسها، وأن يُدار المشهد بمنطق اللحظة، لا بمنطق الدولة، كل المؤشرات تقول إن تحالف بورتسودان لم يعد تحالفًا… بل مرحلة مؤقتة تنهار ببطء. مرحلة يُديرها القلق، وتتحكم بها التوازنات الخارجية، وتتلاعب بها أطراف من داخلها تطعن في ظهرها وهي تبتسم للكاميرات.
الخطير ليس الانشقاق، بل أن التحالف بات بلا مرجعية، بلا ضوابط، بلا أفق مشترك كل طرف فيه يحمل بوصلة تختلف عن الآخر والسفينة حين تتعدد اتجاهاتها، لا تصل الشاطئ… بل تغرق. تحالف بورتسودان لن يسقط فجأة، بل سيذوي كما تذوي النار حين يُسحب عنها الحطب قطعة قطعة.
أولًا بتآكل الشرعية
ثم بانسحاب الحلفاء
ثم بعجزه عن ضبط مكوناته المتطرفة
ثم بانفجار احتجاج شعبي في الميناء أو حوله
ثم بصعود تحالف بديل… من رماد الحريق
وفي النهاية، قد لا تكون بورتسودان حلاً، ولا مخرجًا، ولا حتى مرحلة انتقالية… بل صدى لسقوط آخر، يُعاد تمثيله بلغة جديدة، فقط التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يصرّ على تذكيرنا أنه لا يرحم من لا يتعلم وفي السودان، الدرس يتكرر… والعبرة لا تزال مؤجلة.
فما تبقّى ليس سوى انتظار نهاية بدأت بالفعل.
بورتسودان لن تنهار أمامنا فجأة، بل تذوب قطعة قطعة، مثل مكعب ملح في ماء آسن. لا انفجار صاخب، لا انهيار تلفزيوني… فقط تفكك صامت، وموت سياسي بطيء إلى مفترق المصير.
ما يجري ليس مجرد اضطراب عابر، بل انعطافة حادة نحو مصير مجهول لتحالف لم تُكتب له خارطة طريق واضحة، ولا صُمم ليستمر. والمستقبل القريب مرهون بثلاثة سيناريوهات، يتنافس كل منها على رسم ملامح ما بعد هذا التشظي، أولها
البقاء المشروط، أن يظل التحالف قائمًا، لكن كجسد بلا قلب سياسي نابض، يُدار بالحد الأدنى من التوافق، ويستمر في الحكم كأمر واقع، متكئًا على الدعم الإقليمي، والخوف المشترك من انهيار الدولة أو صعود الدعم السريع.
في هذا السيناريو، سيتحوّل التحالف إلى مظلة أمنية أكثر منه كيانًا سياسيًا، ويُكتفى بتجميل المشهد من الخارج دون معالجة جوهر الخلل البقاء هنا ليس نصرًا، بل هدنة بين أطراف لا تجرؤ على الانفصال ولا تستطيع الانسجام.
أما السيناريو الثاني فهو الانهيار الداخلي، إذا استمر تغوّل العسكريين، وانفلتت الكتائب المتطرفة عن السيطرة، وتنامى السخط الشعبي والمدني، فإن التحالف سيتآكل من داخله، ستتوالى الانسحابات، وسيتحول الصراع من مكتوم إلى علني، وربما تنفجر ساحات الشرق باحتجاجات غير قابلة للضبط.
النتيجة المتوقعة تحالف مفكك، يُترك منه فقط هيكل فارغ، وقد تُولد من رماده كيانات جديدة — بعضها أكثر تطرفًا، وبعضها أكثر عقلانية، لكن دون مركز موحد.
السيناريو الثالث وهو الأقل احتمالًا، يتمثل في التوسع والتحول، لكنه الوحيد القادر على إنقاذ الفكرة قبل أن تتحول إلى ركام، هو أن يقتنع أطراف التحالف بأن استمرارهم لا يكون إلا بتحوّل جذري، نحو مشروع وطني حقيقي، باستبعاد عناصر الإسلاميين المتشددة، والاتجاه ناحية السلام وإيقاف الحرب، بوضع ميثاق انتقالي جامع.
التوسّع هنا لا يعني التمدد في الجغرافيا، بل في الرؤية والشرعية، لكنه يتطلب قيادة شجاعة، ومراجعة قاسية للنفس، وتخلّيًا عن وهم السلطة المطلقة.
السيناريو الأرجح
بناءً على الوقائع الحالية، وتصاعد الانشقاقات وتراجع التماسك الداخلي، وتضارب مراكز القرار، فإن سيناريو الانهيار البطيء هو الأكثر ترجيحًا، ليس لأن الأطراف تريد الانفصال، بل لأنهم عاجزون عن إدارة التناقضات تحت سقف واحد، ولأن الخوف وحده لا يصنع تحالفًا دائمًا… بل يؤجّل لحظة الحقيقة فقط، وفي السودان، كل شيء مؤجل… حتى الانفجار.