حرب السودان المنسية

الأطراف، المطالب، والحلول المقترحة

 

د. عصام عباس

عُرف السودانيون بأنهم أكثر شعوب القارة الأفريقية توقًا إلى الحرية والمدنية والديمقراطية، برغم أنهم الأكثر ابتلاء بالحكم العسكري المتطاول عبر عدة عقود منذ الاستقلال. تميزت الثورات السودانية العظمى بخاصية التفاف الشعب حول شعار يمثل النداء الروحي للشارع الثائر، فكان “إلى القصر حتى النصر”، هو دوحة أكتوبر التي استظل تحتها الثوار، وحينما هبت الجموع في أبريل كان شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، هو ما يوحدهم وبلغ المجد ذروته في ديسمبر المجيدة وشعارها الخالد “تسقط بس”. وحينما وقعت مأساة الحرب في أبريل 2023، أطل شعار “لا للحرب”، وظل يتردد في أروقة السياسة والمجتمع السوداني كتعبير عن رفض هذه الكارثة والدعوة إلى وقفها. ترتفع وتيرته حينًا ثم ما تلبث أن تخفت وتتضاءل في اتساق مع التطورات الميدانية أحيانًا أخرى. الغالبية العظمى مقتنعون بضرورة وقف الحرب، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف السبيل إلى إيقاف هذا النزيف الذي أودى بحياة عشرات الآلاف، وشرد الملايين، وتسبب في أكبر أزمة إنسانية في العالم؟ سأحاول في هذا المقال الإجابة عن ثلاثة أسئلة حائرة: من هم أطراف هذه الحرب فعلياً؟ ما هي مطالب كل طرف؟ وما هي الحلول الممكنة لجعل شعار “لا للحرب” حقيقة في أرض الواقع لا مجرد شعار، مع التركيز على نقاط التقارب والتباعد؟

هذه الحرب لا يمكن اختزالها وتبسيطها بصورة مخلة كمجرد صراع عسكري، بل هي مزيج معقد من طموحات سياسية، واقتصادية، وقضايا عرقية وجهوية، مع تدخلات خارجية تدافع عن مصالحها باستماتة. بعد مرور أكثر من عامين، دخلت الحرب في عامها الثالث دون أفق واضح للسلام، مع إعلان قوات الدعم السريع حكومة موازية في دارفور، مما يهدد بتطورات سلبية تهدد مستقبل تماسك البلاد.

من هم أطراف هذه الحرب

نجحت آلة إعلام دعاة الحرب الإسلاموية في نشر حالة من الإنكار الأعمى بين مناصريها حول حقيقة أطراف هذه الحرب، لدرجة جعلت كثيرًا من المنقادين بلا وعي يرددون “ما في حاجة اسمها طرفي الحرب”، وكأن الجيش السوداني يقاتل كل هذه المدة في طواحين الهواء. دعونا نبدأ بتحديد الأطراف بدقة، والإجابة عن السؤال الفرعي. هل هي مجرد مواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟ أم أنها أعمق من ذلك، وتشمل مناصرين سياسيين وعرقيين، أو حتى أطرافاً غير محلية؟

في ظاهرها، هي صراع مباشر بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، والدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اندلعت في الخرطوم بعد فشل الاتفاق الإطاري، الذي كان يهدف إلى معالجة قضية تعدد الجيوش وبناء جيش مهني قومي واحد، كجزء من الانتقال إلى حكم مدني بعد سقوط نظام عمر البشير في 2019. حتى أغسطس 2025، يسيطر الجيش السوداني على الشرق والشمال والوسط، بما في ذلك بورتسودان مقر الحكومة المؤقتة، بينما يسيطر الدعم السريع على الغرب (دارفور وأجزاء من كردفان الكبرى)، وقد أعلن أخيرًا عن تكوين حكومة موازية مقرها في مدينة نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور. هذا الوضع الميداني والتطورات السياسية يعكس خطراً حقيقياً على وحدة السودان.

لكن الأطراف ليست مقتصرة على الجيشين. فالحركة الإسلامية، بما في ذلك فلول نظام البشير السابق، في مسعى لحماية مصالحهم السياسية والاقتصادية يزعمون مناصرة الجيش، ويقومون في سبيل ذلك بتجنيد مليشيات إسلامية، ويستنفرون شباب المكونات العرقية في الشمال والوسط والشرق، مما يضيف بعداً أيديولوجياً وإثنيًا للصراع. من جهة أخرى، يحظى الدعم السريع بدعم من حواضنه في دارفور، خاصة القبائل العربية، التي ترى في حميدتي ممثلاً لمطالب الهامش المسحوق تاريخياً. هذا يجعل الحرب تحمل طابعاً جهوياً وعرقياً بعض الشيء، حيث يُنظر إليها أحياناً كصراع بين عرب الشمال والوسط الداعمين للجيش وعرب دارفور المناصرين للدعم السريع، مع تورط قبائل غير عربية في دارفور في القتال ضد الدعم السريع بسبب تاريخ الانتهاكات، وأخرى تقاتل إلى جانبه مدفوعة بخلافات وانقسامات تنظيمية.

أما الأطراف غير المحلية، فقد دخلت أطراف خارجية متعددة بشكل مباشر أو غير مباشر في حرب السودان، مما أدى إلى تعقيد الصراع وإطالة أمده. وتشير التقارير إلى أن هذه الأطراف مدفوعة بمصالح استراتيجية واقتصادية، وتتنوع بين داعمة للجيش السوداني وأخرى داعمة لقوات الدعم السريع.

تتلقى قوات الدعم السريع دعمًا عسكريًا ولوجستيًا من عدة دول إقليمية، أبرزها الإمارات العربية المتحدة، التي يُزعم أنها قامت بتزويد القوات بأسلحة وطائرات مسيّرة عبر دول مجاورة مثل تشاد وليبيا. كما يُشار إلى أن قوات الدعم السريع استعانت بمرتزقة أجانب من دول إقليمية، وحتى من كولومبيا لتعويض النقص في المقاتلين.

في المقابل، حصل الجيش السوداني على دعم عسكري من دول أخرى، مثل إيران، التي يُقال إنها قدمت له طائرات مسيّرة ساهمت في ترجيح كفته في بعض المعارك. وتلعب دول مثل مصر وروسيا أدواراً معقدة، حيث تناصر مصر حكومة الأمر الواقع في بورتسودان وتدعم الجيش السوداني. وتُعد المصالح الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على مناجم الذهب، من أبرز الدوافع وراء هذا التدخل الأجنبي.

مطالب الأطراف: جذور الصراع وشروط السلام

القضية الثانية تتعلق بمطالب كل طرف، وما الذي يطلبه حتى يوافق على إسكات الرصاص. لفهم ذلك، يجب العودة إلى الأسباب المباشرة لاندلاع المواجهات: الصراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع، عدم الاستقرار السياسي بسبب استمرار الأزمات السياسية في السودان منذ الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير في 2019، تفاقم الأزمات الاقتصادية، حالة انعدام الثقة بين القادة العسكريين وقادة قوات الدعم السريع، والتدخلات الخارجية المرتبطة بمصالح دولية وإقليمية في السودان أدى إلى زيادة التوترات. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى اندلاع الصراع بشكل مفاجئ وعنيف. دعوني أغوص قليلًا في مطالب كل طرف وتقييمها، مع التركيز على ما دار في جولة جدة فور اندلاع الحرب وما تلاها من محادثات بعضها مباشر وبعضها غير مباشر.

لا يمانع الجيش السوداني من وقف إطلاق النار، لكن بشروط تعكس موقفه كقوة عسكرية نظامية تدافع عن “الدولة”. ترتكز مطالبه بشكل أساسي على:

الدعم السريع، من جهته، يطرح شروطاً تعكس سعيه للحصول على اعتراف سياسي ومكانة متساوية مع الجيش، وتتركز مطالبه على:

بالنظر إلى مطالب الطرفين يمكن الخروج بعدد من الملاحظات التحليلية أوجزها في:

الحلول المقترحة: نقاط التقارب والتباعد، وكيفية تجسير الهوة

الوفاء بمطالب الطرفين المتناقضة في الصراع السوداني يبدو مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. يكمن الحل في تحديد نقاط التقارب، والاعتراف بنقاط التباعد، ثم استخدام أدوات سياسية ودبلوماسية لتجسير هذه الهوة.

نقاط التباعد الجوهرية:

نقاط التقارب المحتملة:

سبل تجسير الهوة

لتجسير الهوة بين الطرفين، يصبح من الضروري اتباع استراتيجية متعددة المسارات:

أولا: المسار الأمني-العسكري:

o وقف إطلاق نار مراقب: يتم الاتفاق على وقف إطلاق نار فوري، ليس بوعود فقط، بل بوجود قوة مراقبة دولية تضمن تنفيذه، مع تحديد مناطق آمنة للمدنيين ومسارات لإيصال المساعدات الإنسانية.

o برنامج الدمج والإصلاح: يتم التفاوض على برنامج زمني محدد وواقعي لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش، يضمن عدم تهميش أفرادها ويتم تحت إشراف دولي وإقليمي. يجب أن يكون هذا البرنامج جزءاً من عملية شاملة لإصلاح الجيش لجعله مؤسسة مهنية وقومية.

ثانيا: المسار السياسي:

o حكومة كفاءات انتقالية: تشكيل حكومة انتقالية مدنية مصغرة من كفاءات غير منحازة للطرفين، تكون مهمتها إدارة شؤون البلاد، ومعالجة الأزمة الإنسانية، والتحضير لمؤتمر دستوري شامل.

o المؤتمر الدستوري: عقد مؤتمر يضم جميع القوى السياسية والمدنية المؤثرة لوضع دستور جديد يحدد شكل الدولة، والعلاقة بين الجيش والسلطة المدنية، ونظام الحكم (فيدرالي أو غيره)، مما يعالج جذور الخلافات.

ثالثا: المسار الدبلوماسي:

o توحيد الجهود الإقليمية: على المجتمع الإقليمي والدولي ممارسة ضغط موحد على الطرفين لوقف الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات. يمكن أن يشمل هذا الضغط فرض عقوبات على معرقلي السلام من كلا الجانبين.

o وساطة محايدة: أن يتولى قيادة المفاوضات وسطاء محايدون يثق بهم الطرفان، وأن يكونوا قادرين على تقديم ضمانات دولية لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.

في الختام، حرب السودان ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة فشل سياسي يمكن تصحيحه. “لا للحرب” ليس شعاراً، بل دعوة لعمل جماعي يبدأ بفهم الأطراف والمطالب، وينتهي بحلول شاملة. إن أردنا سلاماً مستداماً، يجب أن يتجاوز السودانيون التباعد نحو تقارب يعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة.

Exit mobile version