البامية والطماطم والذكريات ..السودانيون يزرعون جذورهم في قلب أمريكا

أفق جديد
في مدينة نيو هوب بولاية مينيسوتا الأمريكية، لا تقتصر الزراعة على مجرد محاصيل تُزرع وتحصد، بل تتجاوز ذلك لتصبح مساحة حية لحفظ الثقافة، وتعزيز الروابط الاجتماعية، ومداواة جراح الاغتراب والحرب. مجموعة من السودانيين هناك أسسوا ما أصبح اليوم شبكة مزدهرة من 20 إلى 30 عائلة، تلتقي أسبوعياً حول الأرض والطعام واللغة والذاكرة.
قبل ثلاث سنوات فقط، بدأ المشروع على قطعة أرض صغيرة مساحتها فدان واحد في نيو هوب، لزراعة محاصيل عضوية وثقافية مثل البامية، السبانخ المصرية، الخيار الأرمني والطماطم الذهبية. ومع الوقت توسع ليشمل سبعة أفدنة أخرى في نورثفيلد، حيث تُزرع المحاصيل على نطاق أوسع وتُربى الماعز.
لكن اللافت أن الزراعة هنا ليست مجرد إنتاج غذائي؛ بل وسيلة لتجسيد الهوية السودانية في المهجر. فحين يأكل أحدهم الطماطم من الحقل، فهو لا يتذوق مجرد ثمرة، بل يشارك في قصة ممتدة من السودان إلى أمريكا.

المؤسس المشارك خالد الحسن يلخص الفكرة بقوله: “نحن نعمل معاً ونعيش معاً، إنها ثقافة جماعية للغاية، وهذا من أجمل ما في الحياة السودانية”.
هذا النهج جعل المزرعة فضاءً للرفقة والتكافل. كل من يساعد في العمل بالحقل يحصل على نصيبه من المحاصيل، وما يزيد يُوزع محلياً. وفي أيام الأحد، وهو اليوم الأبرز في نشاط المزرعة، تتحول الحقول إلى ساحة لقاء اجتماعي، حيث تجتمع العائلات مع أطفالها، يلعبون، يقطفون الطماطم، ويأكلون معاً.

الثقافة في مواجهة الاغتراب
بعيداً عن الإنتاج الزراعي، تحمل المزرعة رسالة تربوية وثقافية. الأطفال هناك يسمعون اللغة السودانية، يرون أطباقاً تقليدية تُطهى أمامهم مثل خُضرة السبانخ باللحم مع الإنجيرا، الأرز بالكركم، أو شاي الكركديه. إنها طريقة طبيعية لغرس الثقافة دون تلقين مباشر.
يقول الحسن: “من المهم أن يستوعب الأطفال الكثير بشكل طبيعي، دون أن يُفرض عليهم أو يُحاضرهم أحد”. هذه الرؤية تجعل المزرعة أشبه بمدرسة غير رسمية للهُوية، حيث يتعلم الصغار معنى الأسرة الممتدة وروح المشاركة.

رغم البُعد الجغرافي، يبقى السودان جزءاً أصيلاً من هذا المشروع. فالكثير من العائلات المشاركة لديها أقارب في الداخل، وما تعانيه البلاد من حروب ومجاعات يجعل التجربة في نيو هوب أكثر إلحاحاً.
المجموعة لا تزرع فقط للمجتمع المحلي، بل تمتد أنشطتها لتطوير تقنيات يمكن أن تخدم السودان. بالتعاون مع طلاب جامعة مينيسوتا، يعملون على ابتكار أنظمة ريّ تُدار عن بُعد من السودان. المشروع يُشرف عليه الحسن الذي عمل سابقاً في هندسة أجهزة زراعة الأعضاء الطبية.

هذا الجهد المجتمعي حظي باعتراف واسع، إذ فازت المجموعة مؤخراً بجائزة “عائلات المزارع للعام 2025” من جامعة مينيسوتا، تكريماً لدورها في دعم الزراعة وبناء روابط اجتماعية قوية. يقول الحسن عن الجائزة: “نشعر بامتنان كبير لأن عملنا يحظى بالتقدير ويُلهم الآخرين، لكن الأمر بالنسبة لنا لم يكن يوماً مجرد تقدير، بل بناء مجتمع”

الجانب الأكثر إنسانية في التجربة هو تأثيرها على الصحة النفسية. ففي أوقات الحرب والقلق على الأهل في السودان، يجد السودانيون في الحقول متنفساً ودواءً.
الحسن يصف الأمر بقوله: “أنت بحاجة إلى الدعم الاجتماعي من الرفقة… إنه أمر شافٍ للغاية، خاصة في أوقات الحرب. الزراعة تحافظ على صحتك النفسية، تُبقيك عاقلاً ومستقراً وسليماً”.

كل أسبوع، تُحضّر العائلات السودانية أطباقاً منزلية وتضعها على طاولات النزهة، من الخبز السوداني إلى الكعك الأمريكي، في مشهد يعكس امتزاج الثقافات. هذا الدمج بين الهوية السودانية والبيئة الأمريكية هو جوهر المشروع: أخذ الإيجابي من كل ثقافة، وترك السلبي، وصناعة حياة جديدة تُشبههم.

Exit mobile version