الناطق الأخرس:

هل ضاق الوطن أم كبرت الزنزانة 

خالد فضل 

وقديمًا قال صديقنا عاطف خيري: كلما زاد الليل نجمة في كتف العسس جرَتْ العصافير المطار. وأقدم منه قال مظفر النواب: ويسألني من أنت.. خجلت أقول له.. قاومت الاستعمار فشرّدني وطني.. وهو من قال: الحزن جميل جدًا، والليل بدون هموم عديم الطعم.. ثم ها هي هموم الليل تطوي الفؤاد بين أكمامها، فيصير القلب إلى همّ، ويطفر من بين خلاياه التداعي والتأمل.

وتفرد خريطة بلدك، بسموات طيورها النازحة، بريق نجومها الخافتة، والقمر المنطفئ، بغاباتها المظلمة، وفيافيها القاحلة، وخضرتها الذابلة، المَحَلْ يطبق على الوديان؛ رغم أنف النحو وضبط المبتدأ مرفوعًا. تلك لغة الناس العادية حيث لا جار ولا مجرور، وعناد تجاه الرفع يسود، الجوع أبو الكفار وملوة العيش حلم من يبيت القَوَىَ.. يقول أخ شقيق، بعد 28 شهرًا من اندلاع الحريق، تأتينا كيلة عيش، حبة لوبيا وحفنة ملح زاد. وفي البيت بضعة أفواه يلوب على لسانها السؤال ببراءة الأطفال.. بابا لماذا الحرمان، ولا مجيب، وطفلة تتلوى من ألم، تصرخ تنشد الدواء والحكيم،  فلا من يسكت الصراخ، وهموم الليل تستحيل إلى تباريح .

  تحوم حولك خيوط وأطياف، وخارطة بلدك تتشظى، الأنهار تعبر الآن بجواز؛ إنْ أفلت الجواز من قائمة (الممنوع) والوديان والدفق السماوي الرهيب السيول، ومن رهيد البردي نفحة بوح محظور.. تفرد الخريطة، بتضاريس السهل والجبل، الصعب والوعر واللوري يغوص في الوحل، يتداعي لنجدته من أفصح الحديث أو رَطَنْ هيلا هيلا  هوب ينزاح العطب، بلدك المغروس في الكُرَبْ.

تفرده على كفك، كما الولد لا يكبر أبدًا في إحساس والديه، من بلغ الشيب ومن في أول خطوات المشي درج، الأم تسهد، قرب جناها، تربض في أسوار المستشفى تلهج بالدعاء لطفلها (الشيخ) كما تهدهد بين ذراعيها ذاك الغرير الزغب. هو بلدك.. المطعون بخنجر من سرق، اعتدى، انقلب أو نهب. هو بلدك المسجون في تداولات العجب، والحزن جميل يقول صديقنا مظفر… والليل بدون هموم عديم الطعم، وطعم الغصة في حلقك شبّ نارا ذات لهب.

الطقس خريف، والجو لطيف، وأوان الطلق يوليو موعد إله الخصب (تموز) في معاشرة الأرض (عشتار) فميلاد الخصب، وفرش التراب لون الخضرة مدّ البصر ,والنظر انكسر أمام حاجز التفتيش فأنت غريب الوجه يا هذا، ليس لك في بلدك سوى التنشين. بلادك لم تضق بل كبرت الزنزانة ويسلم أزهري من الشين والكعب.

بلادك، بلادنا.. فضيلي جماع، ود المكي إبراهيم وود الجزولي كمال، ويا رمال حلتنا زولًا كان بريدك يا حليلو… أبّا موسى متين جيتا من الغربة سلام عليك.. وبوصيكم على ضيف الهجوع عشّوهو.. مطر الرشاش الرشّ.. ودارفور بلدنا بمفعم (الإحساس) ونبضات الناس ومشيت جبال نوبا شفت لي ظبية سموها زينوبا.. الحوت يا أولاد الخرتوم.. والدرفونة مالك، سيدي دوشكا.. وإيه  إيه يا ولاد الربّابة (الاشِبّا ودوبا) وبنات حمر والبقارة في الرقصة مع النقارة، والمردوم.. أنا يا عريييس.. الصغيرون عليك الله سوى التويا علينا مرّة.. كمبلا… وازا وسبت عثمان، أنا عندي حبيبة في قيسان..  هل هذا بلدك؟ وحلفا دقيم ولا باريس إنعل (……) يا ابّود ..

والناطق الأخرس، باسم الظلم؛ معتصمًا بالميناء يذيل المنشور (مواطن) والمواطن مكلوم.. يفرج عن كاميرات المراسلين لتسع عدساتها بعض أماكن في المدينة المهمومة وبعض المرافق محظور، بعض المشاهد محذوف، بعض المواجع مكتوم.. الناطق الأخرس (المواطن) يا صاحبي يزازي حول (كلمة) وحول (لفظ) يحوم.. قلها فإنّك ميت وإنهم إلى يوم يرجأون.. الفجر آت.. وغدًا يلوح.. قلها.. والليل هموم والحزن جمييل. غدًا تعود العصافير تلك التي جرت المطار.. يتسع الوطن وتضيق الزنازين.. ولن تخجل أمام التحقيق.. قاومت الاستعمار فانتصر وطني.. وطننا الوسيع يا مريود.. شايف كيف، الكسرة الطاعمة، غدًا نعود.. وتعود بفتح الكاف كما في الكسر تعود.

Exit mobile version