من طبيب أسنان إلى فنان
كيف لجأ سوداني منفي إلى التصوير الفوتوغرافي كمتنفس للصدمة
بقلم: كامل أحمد – الغارديان
في إحدى أكثر صوره شهرة، “لعنة الذهب”، يكشف المصور السوداني هاشم نصر كيف تحوّل الذهب من نعمة اقتصادية محتملة إلى لعنة سياسية وأمنية، بعدما أصبح وقودًا لصعود قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي استغلته لتعزيز قوتها العسكرية، ما جعل المعدن النفيس مصدرًا لعدم الاستقرار بدلًا من الازدهار في السودان.
بالنسبة لنصر، بات اللون الأحمر منذ اندلاع الحرب رمزًا دائمًا للفقدان وإراقة الدماء. قبل 2023، كانت شخصيات أعماله تتزين بالزهور وتحمل أشكال قلوب، في محاولة لتحدي الصورة النمطية للرجولة في الثقافة السودانية. أما اليوم فقد حلّ القماش الأحمر المتدفق محل تلك الرموز، ليتحوّل إلى علامة متكررة في صوره، تعكس الصدمة الجماعية التي يعيشها السودانيون.
يصف نصر فنه بأنه “أشبه بالحلم”، ويضم مشروعه “عن الحرب والنزوح” مجموعة من الصور السريالية لشخصيات مجهولة الهوية، ترتدي الجلابية السودانية البيضاء التقليدية، وتُخفي وجوهها أقنعة مخروطية الشكل. في إحدى هذه الصور، يجلس شخصان أمام جهاز تلفاز تتدفق منه قطعة قماش حمراء، مشهد يقول إنه استوحاه من جلوسه مع عائلته أمام الأخبار القادمة من السودان: “كل ما نراه هو دمار، دماء، وفقدان”.
من أبرز أعماله أيضًا صورة بعنوان “شظايا الوطن”، أُنتجت بعد عام من بدء الحرب، لتجسد تأثير الصراع على أسرته. وفي لقطات أخرى، يتدلى القماش الأحمر من حقيبة سفر أو يمتد بين المباني، كرمز للنزوح والرحيل القسري. الحرب، كما يؤكد نصر، غيرت علاقته بفنه؛ إذ انتقل من كونه وسيلة شخصية للتعبير إلى أداة للتوعية بأكبر أزمة إنسانية في العالم، وفق توصيف الأمم المتحدة.
من الخرطوم إلى القاهرة
في أبريل 2023، كان نصر يقضي عطلة قصيرة في مصر، حين اندلع القتال في السودان، ولم يتمكن من العودة. الآن يعيش في شقة صغيرة بالقاهرة، بعد أن أدرك أن منزل عائلته الكبير في الخرطوم نُهب على يد الميليشيات.
تُظهر إحصاءات الأمم المتحدة أن 3.3 مليون سوداني فروا من البلاد منذ اندلاع الحرب، وصل منهم 1.5 مليون إلى مصر، فيما توزع الباقون على دول الجوار. وبينما نجت أسرته المقربة من النزوح الداخلي، بقي كثير من أقاربه بين ثمانية ملايين نازح داخل السودان.
إحدى القصص المؤلمة التي يرويها هي وفاة أحد أعمامه بعد شهرين من اندلاع الحرب. كان العم بحاجة لجلسات غسيل كلى منتظمة، لكن الحصار والاشتباكات منعته من الوصول إلى المستشفى: “كنا نطلب منهم الانتقال إلى مكان آمن أو الحصول على أدويته، لكن كل محاولة للخروج كانت تنتهي باشتباكات في الشوارع”.
بدأت علاقة هاشم بالفن خلال جائحة كوفيد-19، حين أُغلقت عيادته لطب الأسنان. استغل تلك الفترة في التقاط صور ذاتية، مستخدمًا أصدقاءه كعارضين. ومع مرور الوقت، أصبح التصوير شغفه الأول، رغم أنه لا يزال يمارس طب الأسنان جزئيًا.
أعماله، التي ينشر معظمها على منصة إنستغرام، حظيت باهتمام متزايد في أوساط الفن العالمية. في العام الماضي، فاز بجائزة التصوير الفوتوغرافي لشرق إفريقيا، وحصل على منح فنية، وأدرج اسمه في قائمة “الأشخاص الذين يجب متابعتهم” في مجلة تصوير فوتوغرافي بريطانية مرموقة.
أقنعة لحماية الهويات
ابتكر نصر الأقنعة الغريبة التي تميز شخصيات صوره كحل إبداعي لإخفاء هويات العارضات، حفاظًا على سلامتهن وسلامة عائلاتهن في السودان، حيث قد يعرضهن الظهور لمخاطر حقيقية. بعض أعماله تحمل رسائل مباشرة عن الحرب، مثل سلسلة “لعنة الذهب” التي تُظهر رجالًا يقفون فوق امرأة ملفوفة بقماش ذهبي، رمزًا لنهب موارد البلاد على يد قوات الدعم السريع.
لكن معظم مشاريعه تنطلق من هدف أعمق: بناء رابط عاطفي بينه وبين السودانيين الآخرين الذين عاشوا تجارب مشتركة من النزوح والخسارة. يرى نصر أن الفن يمنحه وسيلة لمخاطبة الذاكرة الجمعية لبلاده، وتوثيق مأساة قد تُنسى بمرور الوقت.
يعبر هاشم نصر عن استيائه من ضعف الاهتمام العالمي بالحرب السودانية، سواء على وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي: “أشعر أن هذه الحرب مُهملة، وهذا ما يدفعني إلى الاستمرار في الحديث عنها من خلال أعمالي”. بالنسبة له، العدسة ليست مجرد أداة فنية، بل نافذة يطل منها على وطنه البعيد، ويحاول عبرها إيصال صوته وصوت من لا صوت لهم.