لقاء سري وأمل علني.. هل تنجح سويسرا في وقف الموت؟
أفق جديد
في خطوة مفاجئة، التقى البرهان سرًا بمستشار الرئيس الأمريكي في سويسرا لبحث السلام في السودان، قبل أن يتسرب الخبر وتتصاعد ردود الأفعال بين مرحّب ورافض.
واشنطن تؤكد أنه لا حل عسكريًا، بينما يسعى الرئيس دونالد ترامب لتحقيق مكسب سياسي وعبد الفتاح البرهان لنيل الشرعية.
في الميدان يصرخ السودانيون المنهكون من الجوع والحصار: “السلام سمح”، لكنهم يخشون أن يتحول المسار الجديد إلى نسخة ليبية جديدة تبقي البلاد أسيرة السلاح والانقسام.
اللقاء السري
في بلد لم تترك الحرب فيه مكانًا إلا واخترقته، وفي عاصمة مؤقتة يعجز سكانها عن الاحتفاظ برباطة جأشهم تحت وطأة الحر والرطوبة، “بورتسودان” مدينة لا تحفظ الأسرار، حتى حين يتعلق الأمر برئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان، فما كان “سريًا للغاية” صباح الثلاثاء، أصبح حديث الجميع: البرهان التقى الأمريكيين!
في سرية تامة، هبط البرهان في “سويسرا”، حيث اجتمع بمسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والشرق أوسطية والإفريقية. اللقاء، الذي ناقش سبل تحقيق السلام في السودان، لم يبقَ طويلًا خلف الأبواب المغلقة، إذ سرعان ما تسربت أخباره، لتتصاعد ردود الأفعال بين من يرحبون بخيار التفاوض ومن يرونه “انبطاحًا”.
ومع تضارب الروايات بين “ذهب” و”لم يذهب”، حاولت وكالة السودان الرسمية صرف الأنظار بنشر صور للبرهان مع عدد من السفراء، لكن اللقاء السويسري لم يعد قابلاً للإنكار.
رسائل واشنطن:
أكد المستشار الأمريكي مسعد بولس على أنه لا حل عسكري للأزمة السودانية قبل أن تخرج تسريبات عن لقاء آخر جمع بين المبعوث وقائد قوات الدعم السريع وتحالف تأسيس محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ما يعزز من فرضية الضغط الدولى بقيادة أمريكا بغية تسوية الصراع في السودان، بما يستجيب لمصالح الجماعات المتعددة والمتحركة في مسرح النزاع والحرب السودانية، التي تمددت أيامها.
لكن من أنكروا حدوث اللقاء سرعان ما تحولوا للنقيض بالكشف عن خطوطه الرئيسية المفسرة وفقاً لهم في سياق ما يخدم أهداف معسكرهم في الحرب، وأن ما جري يمثل اعترافاً أمريكياً بحكومة السودان التي يديرها البرهان.. اللقاء نفسه مجرد تعبير عما ظلوا يرددونه على الدوام “حميدتي انتهى”.
ردود متباينة:
تباينت ردود الأفعال حول اللقاء والخطوة الجديدة في طريق التفاوض وفي البال خطوات سابقة تم إفشالها في جدة والمنامة وفي جنيف وصولاً لاجتماعات الرباعية الأخيرة في واشنطن، وأصابع الاتهام في كل ما حدث كانت تتجه إلى مجموعات الإسلاميين التي وضعت كل استثماراتها السياسية في الاستمرار في المشهد السوداني على فوهة البندقية.
رحب تحالف صمود بالخطوة وجدد رئيس وزراء حكومة الثورة المنقلب عليه عبد الله حمدوك دعوته للعسكر بأن أوان تحقيق السلام قد حان، وهو الذي سبق وأن قال: لا يوجد منتصر على أشلاء وجثث شعبه.
مسار جديد :
بالنسبة للمراقبين، فإن مسارًا جديدًا قررت الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذه من أجل إنهاء الحرب والأزمة في السودان بالتشاور مع شركائها الإقليميين، وبالطبع مع الرباعية. مسار ينطلق وبشكل رئيسي من المفاتيح الأمنية، واختارت لقاء قائد الجيش عبد الفتاح البرهان لمعرفة شواغله وبالطبع إبلاغه بالمطلوبات الأمريكية.
بشكل عام ظل ما دار في سويسرا طي الكتمان وفي البال أسباب فشل الجولات السابقة التي ارتبطت بشكل رئيسي بالتداول الإعلامي والتحشيد الرافض لأي تفاوض تحت دعاوى “بل بس”.
مثل كل الأحداث المرتبطة بحرب السودان منذ طلقتها الأولى عاد مرة أخرى للسطح سلاح “التحشيد” والثنائية “بل بس في مقابل لازم تقيف”، وعلى غير العادة بدا صوت رفض التفاوض هذه المرة خافتًا مقارنة بما جرى في أوقات سابقة حيث كان “البلابسة” يرفضون حتى الهدن ذات الطابع الإنساني.
ماذا يريد السودانيون:
تريد الولايات المتحدة ورئيسها ترامب إنهاء الحرب السودانية كرصيد جديد للرجل الذي يحاول أن يجعل من نفسه بطلًا للسلام العالمي في هذه الحقبة، ومع هذا الأمر فإن ترامب يحاول الحفاظ على تحالفاته في المنطقة مع دول الخليج المتورطة في حرب السودان بشكل أو آخر، فيما يرغب البرهان من خلال التفاوض في الحفاظ على مقعده السلطوي والحصول على شرعية واعتراف من العالم .
لكن كل ما يجري الآن يجب ألا يتجاوز السؤال الأكثر مركزية وهو المتعلق بما الذي يريده السودانيون من سويسرا؟
السلام سمح :
كان مجرد الحديث عن لقاء سري وتفاوض بمثابة إعادة الأمل للسودانيين الذين أعادوا كتابة عبارتهم الأشهر في وسائل التواصل الاجتماعي “السلام سمح”، وهي العبارة التي تستبطن في داخلها الحقيقة الواضحة للعيان أن أهل السودان وصلوا حد المسغبة بفعل الحرب، وأنه لم يعد في كنانة صبرهم صبر جديد.
مشاهد ميدانية :
في الفاشر عاصمة شمال دارفور، إذ لا صوت يمكن سماعه غير صوت القصف ودوي المدافع والموت، وحيث يعجز إمام المسجد عن إقامة خطبة الجمعة بفعل الجوع، وأعداد الجثث الملقاة في المدينة أكثر من جوالات الذرة والدُخن، وخطابات الإدانة الدولية قد تصل الناس لكنها لن تكون طعامًا ولا دواء، الحصار يطبق بموته على بوابات المدينة وجنود الدعم السريع مدججين بأكثر الأسلحة فتكاً.
لا شيء ينتظره الذين ينتظرون موتهم أكثر من سلام يعيدهم إلى الحياة ويبعد عنهم شبح حرب لا تبغي ولا تذر.
أما في نيالا فيرتب تحالف تأسيس لإعلان حكومته الموازية لا شيء يلوح في أفق المدينة غير الانتهاكات والغلاء الفاحش والانفلات الأمني والأمراض التي تفتك بالناس.
تقول سيدة برفقة صغارها الذين يفتك بهم مرض “الكوليرا”: لا يمكننا أن نقاوم فنحن لا نملك الأموال التي تمكننا من شراء “الصابون” لغسل الأيادي، المياه ملوثة مثلها وكل الأشياء في زمن الحرب، نحن نرغب في أن نعيش لا أكثر ولا أقل”.
وفي كردفان الكبرى يترقب الناس موتهم وهم يتابعون حالة التحشيد بين أطراف النزاع، والمسيرات المحملة بالموت، ولا تغيب انتهاكات الدعم السريع التي هي جزء من سلوك أفرادها في بارا، والأبيض المحاصرة، وفي النهود التي لا يعرف الناس ماذا يحدث خلف أبوابها، في الخوي وفي كادوقلي والدلنج حيث المجاعة وفي المجلد حيث يتقاسم أهل البيت الواحد الموت الأخ المنتسب للجيش في مواجهة شقيقه المستنفر بالدعم السريع.
من هناك يخرج صوت أم “ليت سويسرا” تنجح في الحفاظ على أولادنا من الموت، ليت ذلك يحدث قبل أن تقع الفأس على الرأس.
لاجئون عبر الحدود
العالقون في دول الجوار من دفعت بهم الحرب شرقاً غرباً جنوباً وشمالاً أصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين لا يملكون قوت يومهم لا يملكون القدرة على البقاء ولا حتى الفاتورة التي تمكنهم من العودة من يوغندا، حيث يواجه الهاربون من الموت الموت في المعسكرات وفي ليبيا حيث المعاناة أكبر من أن تستوعبها الحروف لا شيء يريده المشردون غير أن تدق أجراس العودة وأجراس العودة لن تدق ما لم يتوقف دوي الموت يخرج صوتهم وكذبة السلام أجمل بمراحل من حقيقة الحرب.
النموذج الليبي:
يرغب السودانيون أن تنجح البدايات في سويسرا بالوصول بهم وبلادهم إلى محطات السلام لكن الوصول لمحطات السلام بقوة الدفع الأمريكية لا تخفي مخاوفهم أن تكون الخطوات الجديدة هي السير مرة أخرى في طريق الانقسام والتشظي.
وأن ما يجري هو محاولة لاستنساخ النموذج الليبي في الأراضي السودانية بلد واحد بنظاميين إداريين، فهي خطوة لا تجد ترحيباً وتجعل شعبًا كاملًا تحت رحمة حملة السلاح المدعومين بشرعية دولية.