تفاصيل صادمة عن رحلة اللاجئ السوداني مهند الذي هرب من جحيم الحرب عبر ليبيا والبحر
في سن التاسعة عشر، اضطررت إلى الفرار من بلدي، خوفًا على حياتي - دون حتى أن أودع عائلت
بقلم : سونيا لامبرت
في التاسعة عشرة من عمره، لم يكن مهند يطمح سوى في أن يصبح طبيباً. كان هذا الحلم البسيط هو الدافع وراء كل تضحياته، لكنه كان يعيش في واقع لا يرحم. في دارفور بالسودان، لم تكن الحياة مجرد تحديات يومية، بل كانت صراعاً وجودياً. كانت عائلته تنتمي إلى قبيلة الزغاوة، وهي إحدى المجموعات العرقية غير العربية التي أصبحت هدفاً للعنف الممنهج من قبل الميليشيات المسلحة والقوات الحكومية.
لطالما شهد مهند الفظائع التي ارتكبت في حق شعبه. لا يزال يتذكر بوضوح في حديثه للغارديان عن القصة المأساوية لأربعة من أعمامه الذين قُتلوا برصاص قناصة خلال هجوم على قريتهم عندما كان طفلاً. هذه الذكريات المؤلمة لم تفارقه. كان يشاهد الجثث المتورمة على جانب الطريق والمتاجر المنهوبة بينما كانت عائلته تنتقل من مكان إلى آخر، بحثاً عن ملاذ آمن، من مدينة إلى مخيم. لم يكن الخوف من الموت سوى جزء من المعاناة، بل كانت الحياة اليومية محاطة بالتمييز والظلم. “أينما ذهبت، يسألون ‘ما هي قبيلتك؟’ هذا سيحدد ما سيحدث لك وكيف تُعامل،” كانت هذه الكلمات تعبر عن الواقع المرير الذي كان يعيشه.
ورغم كل الصعاب، لم يتخل مهند عن حلمه. كانت والدته معلمة قبل نزوحهم، وقد غرست فيه حب التعلم. عمل بجد ليدعم أسرته، يبيع الطعام والملابس، وفي الوقت نفسه كان يدرس بجدية. وعندما قُبل في كلية الطب، شعر وكأن الحياة قد ابتسمت له أخيراً. كانت تلك الأسابيع الأولى في الجامعة هي “أفضل ما في حياته”، لكن هذا الأمل سرعان ما تلاشى. لم تكن الكلية على قدر تطلعاته؛ فالتعليم كان سيئاً، والخدمات الأساسية مفقودة، والمناهج لا تخدم احتياجات مجتمعه. عندما رفع صوته مطالباً بالتحسين، كان رد فعل نائب رئيس الجامعة هو التهديد. لكن مهند لم يستسلم، فخرج في مظاهرات مع زملائه، مما أدى إلى اعتقاله مرتين. في السجن، لم يكن التعامل معه قاسياً بسبب مشاركته في الاحتجاجات فحسب، بل زادت قسوته بسبب عرقه. بعد الإفراج عنه، أدرك مهند أن حياته في خطر حقيقي. لم يجرؤ حتى على توديع عائلته.
كان الفرار هو خياره الوحيد. كان الطريق الوحيد المتاح له هو طريق غير قانوني، لأنه لو حاول المغادرة رسمياً لكانت السلطات قد قبضت عليه. اختبأ مهند في شاحنة خضروات، متنقلاً بين طرق نائية لمدة ثلاثة أيام، مختبئاً عند كل نقطة تفتيش، حتى وصل إلى الحدود الليبية. كانت رحلته عبر الصحراء بداية لما وصفه لاحقاً بـ “جحيم على الأرض”.
في ليبيا، لم يجد مهند الأمان الذي كان يأمله، بل وجد تجار البشر. اختُطف مراراً وتكراراً، وأُجبر على العمل في ظروف قاسية، بالكاد يجد ما يأكله. كانت هذه العصابات تطلق على المهاجرين “رؤوساً”، وتطلب فدية من عائلاتهم. كان مهند محظوظاً بالهروب بعد ستة أشهر من العبودية، لكنه لم يتخلص من الكابوس تماماً. فقد ظل يُختطف بين الحين والآخر، وفي كل مرة، كان ينجو إما بالرشوة أو بالفرار. رأى بعينيه العنف والقتل. “كانوا يضربوننا بقسوة ويروننا أشخاصاً تُطلق عليهم الرصاص أمامنا”، كانت هذه الكلمات تصف جزءاً يسيراً من الفظائع التي شهدها.
بعد ثلاث سنوات من المعاناة في ليبيا، قرر مهند أن عبور البحر الأبيض المتوسط هو الأمل الأخير. “ليس لديك خيار آخر. في ليبيا لن تكون آمناً أبداً، ولا يمكنك العودة إلى الوطن، لذا يصبح عبور البحر هو الخيار الأقل خطورة”. لم تكن هذه الرحلة بلا مخاطر؛ فقد خُدع من قبل المهربين مراراً وتكراراً، لكنه في النهاية استطاع أن يدخر المال الكافي لرحلته الأخيرة. صعد إلى قارب خشبي صغير مكتظ بالركاب. في عرض البحر، نفد الطعام والماء والوقود، فخلطوا السكر بماء البحر في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة.
في اليوم الثالث، كان اليأس يسيطر على الجميع. بدأ الركاب يفقدون وعيهم، وغرق رجل إثيوبي أمام أعينهم في ليلة عاصفة. عندما بدأت الأمواج تهدأ، لمح مهند جسماً أبيض في الأفق. عندما رأى حروف MSF (أطباء بلا حدود) على جانب السفينة، غمره شعور لا يوصف بالراحة. “بكيت”، يقول مهند وهو يتذكر تلك اللحظة. “شعرت وكأني وُلدت من جديد”. كانت السفينة “جيو بارنتس”، التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، قد وصلت في الوقت المناسب لإنقاذهم.
بعد وصوله إلى إيطاليا، نُقل مهند إلى مركز مكتظ للمهاجرين. عدم اليقين والمخاوف من المستقبل دفعته إلى مواصلة رحلته. توجه إلى فرنسا، حيث واجه صعوبات جديدة. نام في الشوارع، وسافر في القطارات دون تذكرة، وتعرض للتمييز. في كاليه، التقى بمهاجرين آخرين نصحوه بالتوجه إلى المملكة المتحدة، حيث توجد جمعيات خيرية تقدم المساعدة. وهناك، لم يجد مهند سوى المزيد من العنصرية والخطر. فقد صادرت الشرطة خيامهم، وتعرض المراهقون السودانيون الذين حاول مساعدتهم للاعتداء، بل وقُتل أحدهم.
في سبتمبر 2021، اتخذ مهند خطوة يائسة. اختبأ في سيارة متجهة إلى المملكة المتحدة. قفز من السيارة في برمنغهام، وكان المشهد مختلفاً. كانت الشمس مشرقة، والناس يبدون ودودين. طلب المساعدة من امرأة أرشدته إلى مركز الشرطة. “كيف أتيت من السودان، وانتهى بك الأمر في برمنغهام؟” سأله الشرطيون بدهشة. لم يكن يعلم شيئاً عن نظام اللجوء، لكنه تقدم بطلب بعد شهر، ليقضي 15 شهراً في انتظار القرار، متنقلاً بين فنادق ومنازل مشتركة. كان الأمان النسبي راحة كبيرة، لكن عدم القدرة على العمل وعدم اليقين بشأن المستقبل كانا يثيران قلقه.
قرر مهند أن يجد طريقة ليكون منتجاً. بدأ في التطوع مع مجلس اللاجئين، حيث تدرب على تقديم المشورة والدعم للاجئين الآخرين. هذا العمل لم يمنحه شعوراً بالهدف فحسب، بل ساعده أيضاً في التغلب على اضطراب ما بعد الصدمة الذي شُخص به. وعندما مُنح حق اللجوء، شعر وكأنه نجا مرة أخرى. “عندما حصلت على أوراقي، كان شعوري مماثلاً لشعور الإنقاذ في البحر. فكرت: نعم، أستطيع العيش”.
بعد حصوله على حق اللجوء، عاد مهند إلى حلمه. التحق بدورة تدريبية في الطب، ونجح بامتياز في المواد العلمية، لكن اللغة الإنجليزية لا تزال تشكل تحدياً. إنه يبحث عن عمل الآن كحارس أمن أو في مستودع، لكن الأمل في مواصلة دراسة الطب لم يمت.
اليوم، يرى مهند أن الوضع في السودان يزداد سوءاً، وتتوسع رقعة الحرب لتشمل مناطق لم تكن متأثرة من قبل. يرى نفس الميليشيات التي عانى منها، تقتل وتغتصب وتنفذ مجازر عرقية. يقول بأسى: “أن أرى نفس الشيء، مجازر عرقية وإبادة جماعية…” ويشعر بالقلق على عائلته التي لا تزال هناك. كما أنه يرى أن سياسات اللجوء في المملكة المتحدة تزداد قسوة، حيث يمكن للاجئ أن يبقى “مواطناً من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة” مدى الحياة.
يؤكد مهند على أن اللاجئين يواجهون صعوبات هائلة في الحصول على طرق آمنة وقانونية لطلب اللجوء. لقد غادر لإنقاذ حياته، وليس لأنه أراد أن يغادر، ويأمل أن يفهم العالم أن هذه الرحلات ليست خياراً، بل هي ضرورة للبقاء على قيد الحياة. لقد نجا من هذه الرحلة، ولكنه يحمل معه ندوبها الجسدية والنفسية، ويظل يأمل في أن يرى بلاده تنعم بالسلام، وأن يجد لنفسه مكاناً آمناً يمارس فيه مهنته التي طالما حلم بها.