الصحف السودانية: عودة حقيقية أم ولادة جديدة مشوهة
بقلم : حيدر المكاشفي
منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، دخلت الصحافة الورقية في السودان نفقاً مظلماً، حيث توقفت أكثر من 20 صحيفة عن الصدور، وتحوّلت البلاد إلى فضاء يعاني من انقطاع حاد في المعلومات، تاركاً الناس في حالة جهل وتغييب بما يجري داخلها. وكأن الحرب أصدرت بياناً تقول فيه (لا خبر إلا خبر البندقية).. فالخرطوم التي كانت تعج بالمطابع وشركات التوزيع والصحف مختلفة التخصصات، تحوّلت إلى مدينة من الخراب والنهب، بينما وجد المئات من الصحفيين أنفسهم ما بين لاجئين ونازحين، أو يعملون في مهن بعيدة كل البعد عن مهنتهم وأقلامهم وأوراقهم.
في الأنباء أن الحكومة أعلنت عن استعدادها لإعادة الصحف إلى الحياة، بعد أن جمدها الرصاص وأحال مطابعها ودور صحفها إلى ركام. وتقول الانباء إن اجتماعات عُقدت بين السلطات وبعض الناشرين، على رأسهم عثمان ميرغني مالك صحيفة التيار، وتشير تلك الاجتماعات إلى وجود خطة فعلية لعودة الصحف. باعتبار أن الجيش يمتلك مطبعة جاهزة تقريباً تحتاج فقط القليل من الصيانة، وهناك مطبعة أخرى في بحري، إضافة لشركة توزيع مستعدة للعمل.
يبدو الأمر بالنسبة لهؤلاء وكأنه بارقة أمل وسط العتمة، لكن وراء هذا الضوء أسئلة كبيرة وعلامات استفهام حادة.. فوفقاً لنقابة الصحفيين السودانيين، فإن 90% من الصحفيين فقدوا وظائفهم، ولم يتبقَ سوى أقلية تعمل برواتب منتظمة، أغلبها مع وكالات عالمية. أما البقية، فقد أصبحوا باعة جائلين أو عاملين في مهن مؤقتة وهامشية لتأمين قوت أسرهم.
وحتى الصحف التي صمدت إلكترونياً فهي تعمل بإمكانيات شبه معدومة. ورغم أن بعض الناشرين يرون في المبادرة الحكومية فرصة لإنعاش المهنة، إلا أن آخرين يحذرون من ثمن هذه المساعدة. ويصفون هذه العودة بأنها شبه مستحيلة في ظل الظروف الراهنة، ويحذرون من أن تمويل الحكومة للصحف قد يفتح الباب أمام تحكمها في المحتوى، وتحويل الصحف إلى أبواق دعائية للحرب، بدلاً من أن تكون منابر للتنوير.
ان القضية إذن ليست مجرد إعادة تشغيل المطابع وتوفير الورق، بل إعادة الروح لمهنة فقدت بنيتها التحتية وحرية قرارها. فحتى إذا عادت الصحف للصدور، فإن استقلاليتها ستكون على المحك، ما لم تتوافر ضمانات حقيقية تحميها من الابتلاع السلطوي والسياسي..
يبقى السؤال مفتوحاً، هل ستكون عودة الصحف السودانية خطوة نحو استعادة صوت الحقيقة، أم مجرد ولادة جديدة مشوهة في حضن السلطة، فحرب اليوم التي تدور في بلادنا وتستخدم فيها أفتك الاسلحة خفيفها وثقيلها، وبطائراتها المقاتلة ومسيراتها وداناتها وقذائفها الصاروخية وبراميلها المتفجرة، لا تقتل البشر الآمنين الوادعين وتجز أعناقهم فحسب، بل أنها أيضًا تجز أعناق الحقائق فتصبح الحقيقة من بين أول ضحايا الحرب، حيث تنبري الجماعات الخائضة للحرب والداعمة لها والنافخة في كيرها كما نشهد حالياً، وتنخرط في نشاط محموم لاغتيال الحقيقة بعدة وجوه واشكال، لتعبر فوق جثة الحقيقة بل وتدوس عليها لبلوغ مبتغاها وهدفها الذي من أجله تخلصت من الحقيقة والمعلومة الصحيحة، ليخلو لها الجو فتفرخ وتبيض وتملأ الأجواء والأسافير بالأكاذيب والأخبار الملونة والمعلومات المضللة والشائعات، ولهم في ذلك أفانين وطرائق قددًا، ومتخصصون متفرغون لصناعة وبث الرسائل المسمومة، وبغياب الأخبار الدقيقة والصحيحة والمعلومات الحقيقية تتوفر لهم البيئة المثالية لأداء أدوارهم القذرة، وفي حالة حربنا السودانية التي تخضع فيها أجزاء من البلاد لسيطرة الجيش وأجزاء أخرى خاضعة للدعم السريع، تكون الحقيقة في الحالين هي الضائعة، فلا الجيش يسمح بنشر وبث إلا ما يروقه ويطربه ويخدم أغراضه وأجندته، وهو بالضرورة لن يسمح للرافضين للحرب والمطالبين بإيقافها بممارسة أي نشاط صحفي أو سياسي، ولا مليشيا الدعم السريع تسمح بنشر وبث ما يمسها ويضر بها، ولهذا غابت تمامًا التغطية الإعلامية والصحفية المهنية المتوازنة والموضوعية عن مجريات ويوميات الحرب كما هي على الأرض، أما من هم خارج البلاد ولا سيطرة مباشرة عليهم من طرفي القتال، فتسيطر عليهم أجندتهم الخاصة الموزعة بين الطرفين، فمن داعم منهم للجيش أو داعم للدعم السريع ولا داعم بينهم أبدًا للحقيقة إلا من رحم ربي وهم قليلون جدًا، وهكذا تغتال الحقيقة مرتين مرة بالداخل ومرة أخرى بالخارج، ومن عجب أن أفرزت هذه الحرب العبثية طبقة أخرى عابثة تسورت مهنة الإعلام وقفزت عليها بليل بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، وملأت الاسافير والوسائط بغثاء كثيف يثير الغثيان ودونك من يسمون بـ(اللايفاتية والتيكتوكرز واليوتيوبرز).
في النهاية، السؤال ليس هو هل ستعود الصحف؟ بل أي صحف ستعود؟ هل هي صحف الناس الصحافة الحرة المستقلة، أم صحف الحكومة ومجموعة محددة من مناصريها وداعمي حربها الذين سيكتبون عما تراه وتريد أن تسمعه وتقرأه الحكومة، عن ما يطربها ويسعدها وعن انتصاراتها وإنجازاتها لا غير.. وأي صحف تلك التي يراد عودتها في ظل إصدار الفتاوى وإهدار دماء كل من يقول لا للحرب ولا للردة السياسية، وفي ظل صياغة عرائض الاتهام والتخوين الجزافية، وسحب المستندات الرسمية، وإغلاق الحسابات المالية، بل وإصدار فتاوى الإعدام، وسن قوانين الوجوه الغريبة، وتكبيل النشاط الصحفي والسياسي الحر واستهداف بعض الأحزاب وقياداتها، واستهداف القوى المدنية الديمقراطية المطالبة بوقف الحرب واستعادة مسيرة التحول المدني الديمقراطي.. نعم عودة الصحف أمر جميل ومطلوب بلا شك، لكن إذا كانت العودة على طريقة (الذئب الذي يطبع قصة الخراف)، ولو حصلت ح تبقى الصحف لابسة كاكي، وشغالة تعبئة عامة بدل ما تنوّر الناس وتطلعهم على الحقائق بلا تزييف أو تلوين.. يكون الأفضل في هذه الحالة أن تبقى الصفحات بيضاء.. فالصمت لا يكذب على الأقل.