شيلدون يت، ممثل اليونيسف يكتب من الخرطوم: ما رأيته في السودان هو أسوأ ما يمكن أن تفعله الحرب بالبشر

أم سودانية قالت لي ،منذ بدء الحرب، دخلت ابنتي في حالة صمت، أستطيع أن أشعر بقلبها ينبض خوفاً ورعباً كل يوم

أفق جديد
في مقال مؤثر نشرته صحيفة مترو البريطانية، قدّم شيلدون يت ، ممثل اليونيسف في السودان، شهادة مباشرة عن المأساة الإنسانية التي يعيشها ملايين الأطفال والعائلات في البلاد، بعد زيارته الميدانية الأخيرة إلى الخرطوم. شهادته لم تكن مجرد وصف للوضع، بل صرخة مدوية موجّهة إلى المجتمع الدولي كي لا يغض الطرف عن واحدة من أعنف الكوارث الإنسانية المعاصرة.

يقول شيلدون يت :
لقد عدت للتو من السودان، وما رأيته هناك جعلني أؤمن أن العالم لم يعد بإمكانه أن ينظر بعيداً. في الخرطوم، المدينة التي كانت تضج بالحياة ذات يوم، التقيت أماً محطمة قالت لي: منذ بدء الحرب، دخلت ابنتي في حالة صمت، أستطيع أن أشعر بقلبها ينبض من الخوف. هذه الكلمات لم تغادر ذهني لحظة، لأنها تجسد الرعب الذي يعيشه ملايين الأطفال في بلد غارق في أتون حرب لا ترحم، وتكشف حجم الألم الذي لا يمكن إحصاؤه بالأرقام أو الجداول.

قضيت أسبوعاً واحداً في العاصمة السودانية، لكنه كان كافياً لأرى صورة مكثفة عن جحيم الحرب. منازل محروقة وأحياء مهدمة، شوارع خاوية إلا من رائحة الدخان، وأطفال أجسادهم لم تعد سوى جلد على عظم بفعل سوء التغذية. رأيت مجتمعات اقتُلعت من جذورها، وعائلات تكدست في مساكن ضيقة متهالكة بحثاً عن أي مأوى، فيما الأمل يتآكل مع كل يوم يمر. لكن الخرطوم، رغم دمارها، لم تكن سوى انعكاس صغير لما يجري في باقي البلاد.

تعمل فرق اليونيسف وشركاؤها بلا كلل، في ظروف محفوفة بالمخاطر، لمواصلة تقديم المساعدات المنقذة للحياة (الصورة: اليونيسف/محمد علي)

السودان اليوم يمثل أكبر أزمة إنسانية في العالم، والأرقام وحدها كفيلة بإظهار حجم الكارثة. أكثر من نصف السكان يعانون من الجوع، بينما ينتشر شبح المجاعة في مساحات واسعة. ملايين الأطفال هُجروا من منازلهم، والغالبية العظمى منهم خارج المدارس بعد أن تحولت الفصول الدراسية إلى أنقاض أو ملاجئ مؤقتة. آلاف الأطفال قُتلوا أو شُوهوا أو جُندوا قسراً أو تعرضوا لانتهاكات لا يمكن تصورها، فيما يتصاعد الخوف من جيل كامل قد يكبر وهو لا يعرف سوى الحرب والفقدان.

ما يحدث في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، يعكس قسوة المأساة بأبشع صورها. هذه المدينة التي تضم نحو ثلاثمئة ألف إنسان أصبحت محاصرة من كل الجهات. المستشفيات قصفت وأغلقت، الطرق قُطعت، وقوافل المساعدات تواجه الهجمات والنهب بشكل متكرر. منذ أكثر من عام لم تتمكن أي وكالة من إدخال مساعدات غذائية عبر البر إلى المدينة، ومع نفاد الإمدادات العلاجية الخاصة بالأطفال بدأ الموت بالفعل يزحف إلى البيوت. الأطفال هناك يموتون بصمت نتيجة سوء التغذية الحاد، والعالم لا يرى إلا شذرات من أخبار متناثرة، وكأن المأساة غير موجودة.

السودان اليوم يشهد أكبر أزمة إنسانية في العالم (صورة: اليونيسف/محمد علي)

ورغم هذا السواد، وجدت لحظات صغيرة من الأمل. التقيت بسلوى وابنتها أنهار البالغة من العمر عاماً واحداً. كانت الطفلة هزيلة جداً لا تستطيع اللعب أو حتى النوم بسبب ضعف جسدها، فيما عانت أمها من سوء التغذية منذ الحمل. لكن بعد أن حصلت على الغذاء العلاجي المخصص للأطفال، تحسنت حالة أنهار شيئاً فشيئاً حتى تعافت بالكامل. هذه التجربة البسيطة تثبت أن الأرواح يمكن إنقاذها إذا توفرت الموارد، لكنها أيضاً تفضح حجم الخطر عندما تنفد الإمدادات كما يحدث الآن في الفاشر، حيث يقف الأطفال على حافة الموت دون علاج أو غذاء.

كثيرون يصفون ما يجري في السودان بأنه “الأزمة المنسية”، لكن بالنسبة للأطفال وأسرهم لا مكان للنسيان. الصدمات التي يعيشونها اليوم ستلازمهم مدى الحياة، وستمتد آثارها عبر الأجيال القادمة. هؤلاء الصغار الذين فقدوا منازلهم وأحباءهم وانتهكت حقوقهم لن يتمكنوا من بناء مستقبل مستقر إذا تُركوا وحدهم في مواجهة هذا الخراب.

استنفاد الإمدادات يهدد بعقوبة الإعدام للأطفال الجوعى في السودان (صورة: اليونيسف/محمد علي)

لذلك فإن ندائي إلى قادة العالم واضح ومباشر. أولاً، يجب التمسك بالقانون الإنساني الدولي وضمان وصول المساعدات الإنسانية بأمان واستمرار إلى جميع الأطفال، مهما كانت مواقعهم. قطع الطريق أمام قوافل المساعدات أو حرمان الأطفال من الغذاء والدواء يعني إصدار حكم بالموت عليهم، وهذا أمر لا يمكن قبوله أخلاقياً أو إنسانياً. وثانياً، نحن بحاجة عاجلة إلى مزيد من التمويل. تقليص ميزانيات المساعدات هذا العام جعل الوضع المأساوي أكثر قتامة، وإذا استمرت هذه التخفيضات فإن برامج الصحة والتغذية والمياه والتعليم ستنهار، لتترك ملايين الأطفال بلا حماية ولا مستقبل.

حين كنت في السودان، رأيت أسوأ ما يمكن أن تفعله الحرب بالمدن والأجساد والأرواح، ورأيت في الوقت نفسه أفضل ما يمكن أن تقدمه الإنسانية من شجاعة وعمل دؤوب. العاملون الصحيون يواصلون عملهم رغم الخطر، وفرق اليونيسف وشركاؤها يغامرون بحياتهم لإيصال المساعدات. الأطفال الذين التقيتهم أظهروا قدرة مدهشة على الصمود رغم قسوة الظروف. لكن الحقيقة المؤلمة أن الصمود وحده لا يكفي. فبدون تدخل عالمي أكبر واهتمام صادق بالأزمة السودانية لن يتمكن هؤلاء الأطفال من البقاء على قيد الحياة.

لقد رأيت أسوأ ما يمكن أن تفعله الحرب وأفضل ما يمكن أن تقدمه الإنسانية في المقابل (صورة: اليونيسف/محمد علي)

إنني أفكر الآن في تلك الأم التي همست لي بأنها تسمع قلب ابنتها ينبض خوفاً. كلماتها تلاحقني لأنني أعلم أن هناك آلاف الأمهات مثلها في السودان، وكل واحدة منهن تحاول حماية طفلها بوسائل تكاد تكون مستحيلة. هؤلاء الأمهات وأطفالهن لا يحتاجون إلى الشفقة فحسب، بل إلى أفعال ملموسة تغيّر واقعهم.

الأزمة في السودان تدخل عامها الثالث، لكن المعاناة لم تعد مجرد عناوين صحف عابرة. إنها كارثة يومية يعيشها الملايين. وإذا اختار العالم أن يشيح بوجهه، فإن التاريخ لن يغفر له ذلك. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج أطفال السودان إلى أن نتذكر محنتهم، لكن الأهم أن نتحرك لإنقاذهم. يجب ألا يُتركوا وحدهم ليدفعوا الثمن النهائي لهذه الحرب. يجب ألا ينظر العالم بعيداً. ليس الآن، ولا في أي وقت قادم.

Exit mobile version