كادوقلي تموت جوعًا..

أوراق التبلدي.. وجبة أخيرة في حصار الموت

أفق جديد

تسلق خليفة عبد العال، ابن العشر سنوات، شجرة التبلدي العملاقة في كادوقلي وهو يحمل حلمًا صغيرًا: أن ينزل بعض الأوراق ليطهو منها طعامًا يسد جوع إخوته الصغار، لكن دقائق قليلة فصلت بين الأمل والمأساة، إذ ارتطم جسده بالأرض جثة هامدة.

لم يكن خليفة ضحية سقوطٍ عابر، بل ضحية حصار طويل جعل الجوع أفتك من الرصاص، وحوّل الأشجار إلى غذاء، وحوّل حياة الآلاف في جنوب كردفان إلى صراع يومي مع الموت.

لم يكن الطفل خليفة يعرف أن صعوده شجرة التبلدي سيكون آخر محاولاته لإطعام إخوته، “صرخة وارتطام بالأرض”، تاركًا أمّه في صدمة ومدينة بأكملها شاهدة على موت الجوع.

يقول الصحفي فيصل سعد لـ”أفق جديد” إن ابن أخيه خليفة عبد العال ظل يُقيم مع أسرته في مدينة كادقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، ويعتبر الأكبر بين إخوته الصغار.

وأوضح أن “مليشيا الدعم السريع” والحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وتحالف “تأسيس” فرضت حصارًا على المواطنين العُزّل في منطقتي كادوقلي والدلنج، وقطع سلاسل الإمداد وملاحقة الفارين من المواطنين بالتعذيب والقتل.

لافتًا إلى أن مدينة كادوقلي تعاني من حصار مفروض عليها منذ يوليو 2023، بعد انتقال الحرب إلى مناطق كردفان، مع قطع طريق الإمداد، وما زاد الأوضاع تعقيدًا تحرك الحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، لقطع طريق الدلنج – كادوقلي عند منطقة “الكرقل” الذي امتد لأكثر من عام قبل فتحه بواسطة القوات المسلحة.

وأوضح سعد في حديثه لـ”أفق جديد”، أن منطقة كادوقلي فقدت أي نوع من الإمداد الغذائي والدوائي، وانتشرت الوفيات نتيجة للمضاعفات خاصة عند الأطفال حديثي الولادة والأمهات أثناء الولادة، والمصابين بالأمراض المزمنة لنقص الغذاء، إضافة إلى القتل بسبب المعارك المتكررة من قبل الحركة الشعبية.

وأشار إلى أن منظمة “سمارتن بورس” أسقطت أواخر العام الماضي حوالي 30 ألف طن من المواد الغذائية من جنوب السودان، ولكن الحال لم يستمر طويلًا حتى عاد الحصار، وهذه المرة من كل الاتجاهات بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على طريق (الأبيض- الدلنج)، وأحكمت الحركة الشعبية قبضتها على الناحيتين الجنوبية والشرقية، وأغلقت كل الطرق المؤدية من وإلى المنطقتين، وندرت السلع الغذائية والعلاجية مع ارتفاع جنوني للأسعار وعدم وجود فرص للعمل .

وأشار فيصل سعد إلى صعوبة الفرار أو التحرك خارج المنطقة بحثًا عن أي شيء، حيث الاعتقالات من جميع الأطراف المتحاربة تحت تهمة ذريعة التخابر مع الطرف الآخر، وأحيانًا القتل المباشر وهناك حالات هروب بلا عودة.

وأكد أن المواطنين الآن يقتاتون على جذوع الأشجار وقصة الطفل خليفة عبد العال هي أكبر دليل، حيث درج هؤلاء الأطفال على إنزال ورق شجر التبلدي لإعدادها كوجبة رئيسية، وهي طعام أهل البلد، إذ يصعد الأطفال إلى أعلى الأشجار لإنزال الورق حتى صار في أعلى فروع الشجر وبعيدًا عن متناول الأيدي الأمر الذي يتطلب صعودًا ما أدى إلى سقوطه ووقع جثة هامدة.

وأضاف: “ينقسم الناس هناك بين أكل ورق الأشجار مثل التبلدي وورق شجرة اللالوب والنبق والفئران التي انقرضت تمامًا بسبب الإقبال الكبير عليها”.

ونبه سعد إلى أن الأوضاع في كادوقلي الأوضاع ذاتها التي تعيشها منطقة الدلنج ولكن هي أفضل حالًا من كادوقلي لانتشار أسواق (السمبك)، فظلت تصلها بعض السلع عبر التهريب ولكن هناك أزمة كبيرة في السيولة النقدية وعدم القدرة على مجاراة السوق.

وأوضح أن المنطقة الشرقية الواقعة من مدينة أم روابة إلى حدود جنوب السودان، وهي مناطق العباسية – رشاد- أبوجبيهة- كالوقي- تلودي- الليري والقرى المجاورة لها تعاني هي الأخرى من سيولة أمنية وقتل عشوائي من جهات مجهولة في الشهر الماضي، وشهدت المنطقة 9 حالة وفاة مجهولة 4 منها بمنطقة أبو جبيهة.

وذكرت المواطنة آسيا عبد الباقي (42) عامًا التي تسكن مدينة الدلنج أن أسعار المواد الغذائية مرتفعة، وقد بلغ سعر ملوة ملح الطعام 200 ألف جنيه.

وقالت آسيا في حديثها لـ”أفق جديد”: إن كادوقلي والدلنج تعانيان الموت بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبلغ سعر ملوة الذرة بلغ 45 ألف جنيه، وملوة اللوبيا 75 ألف جنيه.

وفي يوليو الماضي، نظم مواطنون مظاهرات في مدينة كادوقلي احتجاجًا على ندرة الغذاء خاصة الذرة والبصل والملح والزيت، لكن الاحتجاجات تحولت إلى أعمال عنف ونهب وحرق طالت سوق المدينة.

وقابلت الأجهزة الأمنية والعسكرية في المنطقة الاحتجاجات بعنف مفرط بعد أن استخدمت الذخيرة الحية في تفريق المحتجين، مما أسفر عن مقتل شخص واحد على الأقل وإصابة العشرات من المواطنين.

“السودان لا يستطيع تحمل يوم آخر من الحرب – على العالم أن يتحرك الآن”، هكذا قال رمطان لعمامرة، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للسودان.

وقال لعمامرة في بيان الجمعة الماضي: “ربما لم تطلعوا على ذلك في العناوين الإعلامية الرئيسية على قلتها، إلا أن السودان يشهد منذ وقت طويل أكبر أزمة إنسانية في العالم. أكثر من 30 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية. وتزداد الأوضاع سوءاً مع تدهور الأمن الغذائي وارتفاع حاد في معدلات سوء التغذية. كما تساهم الاشتباكات المسلحة في استشراء الكوليرا والأمراض المعدية الأخرى. وبلغ العنف القائم على النوع الاجتماعي مستويات مقلقة، وتسبب النزاع بحرمان 17 مليون طفل من التعليم، مما ينذر بكارثة حقيقية تلم بجيل بأكمله”.

وأضاف، “لكن لا يزال هناك وقت لتغيير هذا المسار. لا تزال هناك فرصة أمام القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لإنقاذ السودان من الهاوية، إذا وجد المزيج السديد من الإرادة السياسية، واستخدام الضغط وإسداء الدعم، أما الأمر الأكثر إلحاحًا الآن فهو الاتفاق على وقف فوري لإطلاق النار، والانخراط في حوار حقيقي لمعالجة أسباب الصراع. وبعد سنوات من العمل على حل أزمات عالمية شديدة التعقيد، بات من الواضح بالنسبة لي أن الحوار أفضل من الحرب، كما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ماكميلان. اليوم هناك نافذة ضيقة – لكنها تنغلق بسرعة – للشروع في هذا الحوار. فموسم الأمطار يقترب، وقد تتراجع المعارك البرية على المدى المنظور. وأقف بمعية الشركاء الدوليين الرئيسيين، على أهبة الاستعداد للعمل مع الأطراف المتنازعة على اتخاذ تدابير لخفض التوتر، تتيح وصول المساعدات، وحماية المحاصيل، والحفاظ على المنازل والمدارس والمستشفيات. هذه الخطوات يمكن أن تبني الثقة – والأهم من ذلك، أن تنقذ العديد من الأرواح.

وحسب لعمامرة، فإن لا أحد يعرف على وجه الدقة على عدد القتلى في السودان منذ 15 أبريل 2023، حين وجهت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أسلحتها نحو بعضها البعض. لكن الأكيد أن عدد الضحايا مذهل ويزداد سوءاً يومًا بعد يوم. واحد من أصل أربعة سودانيين – أي زهاء 12 مليون شخص – اضطروا للنزوح من منازلهم. لفهم حجم هذه الكارثة، تخيل أن جميع سكان كاليفورنيا ونيويورك وفلوريدا اضطروا فجأة للفرار بسبب الحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى