كلمة العدد
في الغرف الباردة بجنيف، وأمام المبعوثين الذين يتقاطرون على بورتسودان، يتفنن عبد الفتاح البرهان في توزيع وعود جوفاء عن «استعادة الفضاء المدني» و«تهيئة المناخ السياسي». لا يجرؤ الرجل على مواجهة السودانيين بوعوده مباشرة، لأنه يدرك تمامًا أن الشارع فقد ثقته فيه منذ زمن بعيد، بل ينظر إليه باعتباره امتدادًا لمنظومة الإنقاذ التي قادت البلاد إلى الخراب. البرهان يعرف جمهوره: دبلوماسيون يبحثون عن كلمات مطمئنة أكثر من بحثهم عن حقائق الواقع، ومبعوثون دوليون يكتفون بالصور التذكارية والتقارير المنمقة، فيما يتوارى خلفهم الخراب الكبير الذي يلتهم حاضر السودان ومستقبله.
لكن ما إن تنتهي الاجتماعات المغلقة، حتى تسقط الأقنعة. الحقيقة على الأرض لا تحتاج إلى بيانات أو خطابات، بل تظهر في كل مدينة وقرية وشارع، قمع متصاعد، انتهاكات ممنهجة، عودة أدوات البطش القديمة نفسها التي ظن السودانيون أنهم دفنوها مع سقوط الإنقاذ. البرهان يتحدث بلغة «التحول» لكنه يحكم بعقلية الطغيان، يعد بالمدنية بينما يزرع الرعب في المجتمع، يرفع شعار الاستقرار بينما يفتح أبواب المعتقلات ويطلق يد الأجهزة الأمنية في مطاردة الناشطين.
من أم درمان، إلى بورتسودان التي تحولت إلى عاصمة اضطرارية تأوي سلطة عاجزة، ومن كسلا على الحدود الشرقية إلى الأبيض في عمق كردفان، تمتد يد القمع بلا هوادة. الاعتقالات التعسفية عادت كروتين يومي، والبلاغات الكيدية صارت وسيلة انتقام، والمحاكمات الشكلية تُدار وكأنها مسرحية هزلية بلا قاضٍ عادل ولا قانون محترم.
أبشع فصول هذا القمع تُكتب في معسكرات الاحتجاز السرية، وعلى رأسها «سركاب» سيء السمعة، الذي تتواتر الشهادات بأنه أصبح مقبرة صامتة. هناك تُكسر الأجساد تحت سياط التعذيب، وهناك تنطفئ الأرواح دون أن يعرف ذووها مصيرهم. أمهات يترددن على أبواب السلطات يومًا بعد يوم بحثًا عن أبنائهن المختفين قسريًا، وآباء يتنقلون بين المكاتب بلا جواب سوى الصمت أو التهديد، كل ذلك يحدث بينما البرهان يبتسم في وجه من يلتقيه واعدًا بإجراءات وشيكة تمهد لاستعادة «المناخ السياسي». أي مناخ هذا والدموع تحولت إلى لغة يومية للأسر المكلومة؟
وليس «سركاب» إلا رمزًا واحدًا لشبكة أوسع من المعتقلات السرية التي تدار خارج أي إطار قانوني، حيث تُمارس أبشع الانتهاكات. هذه الممارسات ليست انحرافًا عابرًا، بل سياسة متعمدة، تعكس حقيقة أن السلطة الحالية ترى في القمع الوسيلة الوحيدة لإطالة عمرها.
أما ما يُعرف بـ«الخلية المشتركة»، فهي الوجه الأكثر فجاجة لهذه العقلية. قوة غامضة، بلا تعريف قانوني ولا ولاية دستورية، لكنها اليوم الذراع الأشد بطشًا بيد النظام. من يقودها؟ ومن يحاسبها؟ لا أحد يعلم. كل ما هو واضح أن عناصرها ينتمون إلى الحركة الإسلامية وفلول المؤتمر الوطني الذين وجدوا في الحرب فرصة ذهبية للعودة إلى صدارة المشهد. هؤلاء لم يتغيروا؛ نفس العقول، نفس الذهنية الانتقامية، نفس الرغبة في سحق أي صوت حر. ما تغير فقط هو أنهم باتوا أكثر شراسة بعد أن رأوا في انهيار الدولة فرصة لإعادة تشكيلها وفق هواهم.
البرهان نفسه، الذي يزعم أنه يقود معركة «الحفاظ على السودان»، لم يعد يخفي تحالفه مع هؤلاء. لقد فتح لهم الأبواب على مصراعيها، وأعطاهم الغطاء الأمني والسياسي ليعودوا إلى مواقع القرار. وهم اليوم لا يضيّعون لحظة لإعادة إنتاج نفس أدوات السيطرة التي أطاحت بها ثورة ديسمبر. كل من رفع صوته في الماضي ضد الإنقاذ، وكل من يدعو اليوم إلى السلام أو المدنية، صار هدفًا مشروعًا لهم. إنها تصفية حسابات شاملة، تستند إلى منطق الكراهية والانتقام، لا إلى أي رؤية وطنية. فالرجل الذي يعيد تمكين الإسلاميين ويطلق يد أجهزتهم في قمع الشعب، لا يمكن أن يكون جادًا في أي مسار مدني. حديثه عن «الانتقال» ليس سوى محاولة لإقناع الخارج بتركه في مقعد السلطة، بينما الداخل يُدار بعقلية شمولية أكثر قسوة من ذي قبل.
إن الإسلاميين الذين احتموا بالبرهان ليسوا شركاء سياسيين عاديين، بل هم عقل الانقلاب وروحه، وهم المستفيدون الأوائل من هذه الحرب. والبرهان، الذي لم يتردد في إعادة تدوير رموزهم في أجهزة الدولة والأمن، صار أسيرًا لهم، إن لم نقل شريكًا كاملًا في مشروعهم. لهذا فإن أي رهان على وعوده ليس سوى تضليل جديد، وسقوط في فخ الأكاذيب التي خبرها السودانيون طيلة ثلاثة عقود ونصف.
لقد أثبتت التجربة أن الحرية لا تُمنح بوعود في الغرف المغلقة، ولا تُصان بابتسامات أمام المبعوثين. الحرية تُنتزع من بين أنياب القمع، والعدالة لا تتحقق إلا بكسر حلقة الإفلات من العقاب التي يرعاها البرهان وحلفاؤه. أما دون ذلك، فكل ما يُقال في جنيف وبورتسودان مجرد هباء، كلمات تذروها الرياح، لا تساوي شيئًا أمام صرخات المعتقلين، ولا أمام دماء الشهداء التي لم تجف بعد.
البرهان والإسلاميون يظنون أنهم قادرون على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن التاريخ لا يعود. الشارع الذي أسقط البشير لن يقبل بإعادة تدوير نظامه تحت أي لافتة جديدة. والشعب الذي خرج في ديسمبر بصدور عارية سيخرج من جديد، لأن الكرامة لا تُشترى بالوعود، ولأن الحرية لا تُباع في أسواق المبعوثين. وما لم يُحاسب القتلة وتُفكك أدوات القمع ويُفتح المجال لعمل سياسي حر، فإن السودان سيظل أسير دائرة الشر نفسها.
أما العالم، فعليه أن يدرك أن تصديق أكاذيب البرهان هو خيانة لقيم الحرية والديمقراطية. المبعوثون الذين يكتفون بالابتسامات في بورتسودان عليهم أن يسمعوا صوت الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن من المعتقلات، وعليهم أن يروا بعيونهم ما يحدث في «سركاب» وغيره من المعسكرات. أما إذا اختاروا أن يدفنوا رؤوسهم في الرمال، فسيكونوا شركاء في الجريمة.