الذهب في السودان ثروة بين النهب والتهريب أم أداة للتعافي بعد الحرب؟

 

عمر سيد أحمد

خبير مصرفي ومالي وتمويل مستقل

📧 O.sidahmed09@gmail.com

أغسطس 2025

🔹 هذا المقال مُجتزأ من ورقة بحثية موسعة بعنوان «الذهب بين النهب والتهريب ودعم التعافي والتنمية بعد الحرب»، قُدمت إلى منتدى غرب أستراليا الثقافي (أغسطس 2025).

الذهب: من مورد حضاري إلى وقود للصراع

منذ آلاف السنين ارتبط الذهب بهوية السودان، من ممالك كوش ونبتة إلى النقوش التي خلّدها الفراعنة وهم يحاولون السيطرة على “أرض الذهب”. لكن المفارقة أن هذه الثروة التاريخية، التي كان يُفترض أن تكون رافعة للتنمية، تحولت في العقود الأخيرة إلى مصدر للفوضى والتهريب وتمويل الحرب.

فبعد انفصال الجنوب عام 2011 وتراجع عائدات النفط، قفز الذهب ليصبح المورد الأول للنقد الأجنبي. إلا أن غياب الرقابة الرسمية فتح الباب واسعًا أمام التعدين العشوائي، وشبكات التهريب، وسيطرة المليشيات المسلحة على المناجم.

طفرة الذهب.. وولادة اقتصاد موازٍ

التعدين الأهلي بات يشغّل أكثر من مليون سوداني، يشكّلون شبكة إنتاج ضخمة تمتد من نهر النيل حتى دارفور. غير أن أدوات الحفر البدائية وغياب التنظيم جعلت هذه “الحمّى الذهبية” خطرة على البشر والبيئة. ومع دخول الشركات الصغيرة والمتوسطة، وارتباط بعضها بنفوذ سياسي وعسكري، تعمّق طابع القطاع الموازي.

 

التقديرات الرسمية تحدثت عن إنتاج تجاوز 100 طن سنويًا في بعض السنوات، لكن نصفه أو أكثر يختفي عبر التهريب. تقارير دولية مثل Global Witness أكدت أن ما بين 50% و80% من الإنتاج يُهرَّب سنويًا إلى مصر وليبيا وتشاد والإمارات، ما حرم السودان من مليارات الدولارات.

الذهب يلتهم الذاكرة الحضارية

غير أن المفارقة المأساوية أنّ نفس المواقع التي شكّلت قلب الحضارات النوبية القديمة، مثل صلب، كدرمة، وجزيرة صاي، أصبحت اليوم مهددة بالتدمير بسبب التعدين العشوائي. ففي هذه المناطق التي تحتضن نقوشًا ومعابد عمرها آلاف السنين، تتجاور الحفريات الأثرية مع حفر التنقيب غير المنظم، حيث تُستباح المواقع التاريخية بحثًا عن الذهب الخام.

الخبراء يحذّرون من أن استمرار هذا النمط يعني فقدان السودان جزءًا من ذاكرته الحضارية غير القابلة للتعويض، تمامًا كما يفقد موارده المالية عبر التهريب. وهكذا يتضاعف النزيف: ذهب منهوب وتاريخ مُدمَّر.

الذهب والسلطة… تمويل للحرب بدل التنمية

تحوّل الذهب إلى شريان تمويل للأجهزة العسكرية والمليشيات. قوات الدعم السريع سيطرت على مناجم جبل عامر بدارفور، وصدّرت كميات ضخمة إلى الخارج بعيدًا عن البنك المركزي. ومع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023، أصبح الذهب الوقود الأساسي لاستمرار المعارك، حيث تُستخدم عائداته لشراء الأسلحة.

بهذا المعنى لم يعد الذهب مجرد سلعة اقتصادية، بل صار أداة سياسية وعسكرية تعيد رسم موازين القوة داخل السودان.

ثمن باهظ: البيئة والمجتمع

وراء بريق المعدن الأصفر تكمن كلفة بيئية واجتماعية باهظة. استخدام الزئبق والسيانيد في عمليات الاستخلاص تسبب في تلوث التربة والمياه وانتشار أمراض خطيرة، كما أدت أنشطة التعدين إلى تهجير مجتمعات رعوية وزراعية، واندلاع نزاعات قبلية حول الموارد.

ولا تقتصر الآثار السلبية للتعدين على البيئة والصحة العامة، بل تمتد إلى المجتمع والذاكرة الثقافية:

– على الصعيد البيئي: تلوث المياه والهواء، تدمير الأراضي الزراعية، تصحر واحتطاب واسع.

– على الصعيد الصحي: انتشار أمراض الكلى والجهاز العصبي بسبب الزئبق، حالات تسمم ونفوق حيوانات، وارتفاع الإصابات بالأمراض المعدية.

– على الصعيد الاجتماعي: تفكك الأسر وهجرة الشباب، عمالة الأطفال في المناجم، تفشي الإدمان والجريمة، ونزاعات قبلية دامية حول المناجم.

– على الصعيد الثقافي والحضاري: تدمير مواقع أثرية نوبية مثل صلب، كدرمة، وجزيرة صاي، ما يعني ضياع جزء من الذاكرة التاريخية غير القابلة للتعويض.

بين الفوضى والسيادة: ما العمل؟

يرى خبراء أن إنقاذ قطاع الذهب يتطلب إعادة سيطرة الدولة عبر:

– احتكار البنك المركزي لشراء وتصدير الذهب.

– إنشاء بورصة وطنية ومصفاة حكومية معتمدة.

– سن قوانين صارمة ضد التهريب والتلاعب بالعقود.

– إطلاق أدوات سيادية مثل السندات الذهبية والسبائك الاستثمارية.

– تأسيس “مدينة الذهب السودانية” كمجمع صناعي وتمويلي يضيف قيمة محلية.

الأهم أن تتحول العائدات إلى التنمية المحلية في مناطق التعدين، عبر صناديق بيئية واجتماعية، بدل أن تظل وقودًا للحرب.

خاتمة: الذهب اختبار السيادة

الذهب في السودان اليوم هو امتحان للسيادة: إما أن يُدار بعقلية الدولة الحديثة فيتحول إلى أصل مالي داعم للإعمار، أو يظل رهينة لاقتصاد الظل والميليشيات. التجارب في دول مثل غانا وإثيوبيا أثبتت أن بناء بورصات وطنية ومصافي شفافة قادر على تحويل الذهب من لعنة إلى فرصة.

وبين خيار الفوضى وخيار السيادة، يتحدد مستقبل السودان الاقتصادي والسياسي.

Exit mobile version