أسرار سويسرا.. توتر بورتسودان
البرهان و” الكيزان”.. من يسبق ينجو
عثمان فضل الله
حرب بلا ملامح واضحة، غامضة، مفترسة، اجتاحت السودان كعاصفة عمياء. لا أحد يدري بالضبط كيف اشتعلت، ولا من أوقد شرارتها، ولا لماذا تحرقنا جميعًا. فجأة، استيقظ السودانيون ليجدوا أنفسهم وسط جحيم لم يختاروه، جحيم يُطلب منك فيه أن تختار معسكرًا لتنجو، فإن ترددت أو رفضت، وُصِمت بالخيانة، ووُضعت على قوائم التصفيات. ليس أمامك سوى الموت، رصاصة في الرأس، أو إذلال لا يوصف — كما هدّد بذلك أحدُ أولئك الملتحين الذين يدّعون نصرة الجيش.
الحياد أصبح تهمة، والنجاة مشروطة بالولاء الأعمى، والحقيقة باتت محاصرة بين فوهات البنادق. الناس يركضون في الشوارع المحطمة، يفتّشون عن بقايا أمان، عن وجوه أحباب لم تُرَ منذ شهور، عن بيوت لم تعد تشبه البيوت. الموت أصبح عادياً، يُوزَّع يوميًا كوجبة باردة، بلا دمعة، بلا دفن، بلا وداع.
ملامح مشروع
ورغم وحشية المشهد، وانغماس البلاد في رعب لا يتوقف، لم يعد هناك شك: ما يحدث ليس عبثًا، ولا مجرد صراع على السلطة. كل يوم يمضي يكشف أن ما يُدار هو مشروع واضح المعالم، حتى لو تنكّر في ثوب الفوضى. مشروع يقوم على تمزيق السودان، وسحق مجتمعه، وإعادة تشكيله بالقوة والعنف. لم تعد الأمور غامضة، بل باتت الجريمة عارية، تُنفّذ على أنقاض المدن، فوق دماء الأبرياء، وعلى جثث الأطفال وأحلام الأمهات.
في خضم هذا الغموض والدمار، كشف الصحافي الأمريكي من أصول عراقية، حسين عبد الحسين، في الرابع من أغسطس الحالي، معلومات صادمة حول أول مشروع أمريكي لوقف الحرب. ففي مقال نشره على موقع منظمة الدفاع عن الديمقراطيات، قال إن إدارة ترامب كانت تعتزم طرح خطة سلام مستوحاة من اتفاق رواندا–جمهورية الكونغو الديمقراطية، تقوم على “تقاسم عادل” لثروات السودان المعدنية الهائلة — التي تقدَّر، بحسب المقال، بـ350 مليار دولار من احتياطيات النفط، و80 مليار دولار من الذهب.
ويمضي عبد الحسين في مقاله قائلًا إن إلغاء اجتماع “الرباعية” حينها، أدى إلى تأجيل هذه الخطة “الحكيمة”، على حد وصفه، إلى أجل غير مسمّى. ورغم أهمية ما ذكره، إلا أن عبد الحسين لم يُفصح عن مصدر أرقامه حول حجم الثروات، ولا مَن المقصود بأطراف ذلك “التقاسم العادل”، لكنه اعتبر أن إلغاء الاجتماع كان خطأً استراتيجياً، أضاع على السودان فرصة كان من الممكن أن تغيّر مسار الحرب. هذا الطرح الأمريكي – بحسب من تحدثنا اليهم – لا يكشف فقط عن رؤية “براغماتية” باردة تتعامل مع المأساة السودانية كمجرد أزمة يمكن حلّها عبر محاصصة الثروات، بل يعرّي كذلك طبيعة النظرة الدولية للسودان: بلد غني بالذهب والنفط، فقير بالقرار والسيادة. لم يُطرح وقف الحرب من بوابة العدالة أو الكرامة أو إنقاذ المدنيين، بل من زاوية “التقاسم العادل”، وكأن الدماء لا تُغسل إلا بالدولار، وكأن ما يُقتل يوميًا في شوارع السودان هو فائض سكاني لا بشر لهم حق الحياة.
فغياب التفاصيل في مقال عبد الحسين ليس مجرد ثغرة صحفية، بل انعكاس لحقيقة مرعبة: أن ثروات السودان تُقدَّر وتُوزَّع في الغرف المغلقة، دون أن يُستشار أصحاب الأرض، ودون أن يكون للشعب أي حضور في تقرير مصيره. من هم هؤلاء الذين سيقتسمون الذهب والنفط؟ هل هم قادة الميليشيات؟ الجنرالات؟ حلفاؤهم الإقليميون؟ أم الشركات العابرة للقارات التي لا يهمها من يحكم، ما دام التصدير مستمرًا؟
محاولة تدوير
الخطورة في هذا المشروع لا تكمن فقط في محتواه، بل في توقيته وطريقة تفكيره. فالمبادرة – كما طُرحت – لا تنبع من قراءة جذرية للأزمة السودانية، بل من محاولة لتدويرها بما يخدم استقرار مصالح الخارج، لا استقرار السودان. ما يُراد هو إدارة الحرب لا إنهاؤها، احتواؤها لا تفكيك أسبابها، ضمان سلاسة تقاسم الموارد لا إعادة بناء الدولة.
كل هذا يطرح سؤالًا أكبر: هل يقبل الداخل السوداني بأي “تسوية” تُفرض عليه من فوق؟ من دون عدالة؟ من دون محاسبة؟ من دون أن يُمنح صوتُ الضحايا أي فرصة للحديث؟ من دون أن يُسأل الشعب عمّن سرق عمره ومستقبله؟
السودان اليوم ليس كما كان قبل الحرب. المدن تهدمت، الثقة تكسّرت، والوعي الشعبي تغيّر. آلاف القصص من النزوح والانتهاكات والمذابح لا يمكن أن تُطوى بتوقيع فوق طاولة في واشنطن أو أبوظبي أو أديس أبابا. الحرب أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين المركز والهامش، بين من يحكم، وبأي شرعية، ولمصلحة من، ولذلك، فإن أي خطة “سلام” لا تنبع من الداخل، ولا تحترم إرادة السودانيين الحقيقية، ستكون مجرد هدنة هشّة أخرى، تؤسس لجولة جديدة من الصراع. لأن الحل لا يمكن أن يكون اقتصادياً فقط، ولا أمنياً فقط، ولا دولياً فقط. لا بد أن يكون سياسياً، شعبياً، جذرياً – يعيد بناء الدولة من الأساس، لا فقط ترتيب الغنائم فوق أنقاضها.
مشهد مفتوح
على الضفة الأخرى وفي أم درمان، يبدو المشهد درامياً كأنه مسرح مفتوح على كل الاحتمالات: مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، يقف أمام “مبادرة رموز المجتمع” ليبشّر الحضور بأن الحرب شارفت على نهايتها، مستخدماً لغة “الكلاش” كرمز لإسكات البنادق، داعياً إلى مصالحات تعيد ترميم السودان. لكن، وفي اليوم ذاته، ومن المدينة نفسها، يعلو صوت البرهان غاضباً متوعداً: “المتمردون دمّروا السودان، ولن يكون هناك تعايش معهم أبداً… سنثأر للشهداء”. هذان التصريحان، المتناقضان حتى التنافر، بدَوا كأنهما مرآة لارتباك يضرب كابينة القيادة في بورتسودان، حيث المقر المؤقت للسلطة منذ اندلاع الحرب. خلف الأبواب المغلقة هناك، تدور همسات عن لجنة سياسية شكّلها البرهان لرسم خارطة حوار سوداني ـ سوداني يُفترض أن يُتوّج بمؤتمر جامع. لكن البرهان، الذي اعتاد أن يقول شيئاً ويفعل نقيضه، بدا كمن ينسج خيوطاً متعارضة: خطاب حرب في العلن، وتهيئة لمصالحة خلف الكواليس، فلا هو مع السلام ولا هو ضده، لاهو يريد ان يدفع فاتورة التحالف مع الإسلاميين ولا يريد الفكاك منهم، فبورتسودان التي اختارها مستقرًا لم تعد تلك المدينة الحالمة التي كانت تنام على وقع الموج وتستيقظ على نداء البواخر، ولا هي تلك التي كانت تردد أهازيج عمّال الأرصفة مع شروق كل شمس. تبدّلت ملامحها بفعل تقلباته، كأنما اجتُثّ قلبها ودُفِن تحت ركام المؤامرات. الغربان وحدها ما زالت تصرخ، والبحر يزفر أنينه في صمتٍ حذر، كأنّه يراقب المشهد من بعيد. صفّارات البواخر أصبحت نادرة، خجولة، كأنها تخشى أن تزعج الموت المنتظر
توجس وخوف
المدينة الآن متوجسة، تنام بعين وتترك الأخرى مفتوحة لرصد الخطر. أزقتها تهمس بما لا يُقال، وميناؤها العظيم تحوّل من شريان حياة إلى ساحة صراع مكتوم. لم يعد فيها مكان لمن لا يحمل بندقية، فالسلاح صار تصريح الإقامة في هذا الجحيم المستعر. الإسلاميون، والبرهان، وفلول حركات جوبا، يتناوبون على رقعة شطرنج ضيّقة، بينما انسحب من لا يملك قطعة سلاح يلعب بها، فلم يعد للسيد جعفر الميرغني صوتٌ يسمع ولا محمد وداعة يتجول بين فنادقها، ولا نبيل أديب يؤانس قادة الجيش في لياليها.
بورتسودان الآن تعيش على حافة البارود. لا تنتظر خلاصًا، بل انفجارًا. المدينة التي لم تعتد الكتمان، باتت تضجّ بالأسرار، والكل فيها يترقب الضربة الأولى – لأن من يسبق، ينجو.
فمنذ أن سقطت الخرطوم في قبضة الحرب، بدأت بورتسودان تتلوّى تحت ثقل ما لا تطيقه، ولم يعد السؤال فيها عن علاقة البرهان بالإسلاميين مجرد جدل نخبوي، بل تحوّل إلى لعنة حاضرة في كل ركن من أركان المدينة، جرحٌ مفتوح في خاصرة الدولة، تراه في نظرات الجنود المتناثرين على الحواجز، وتلمسه في خطوات الناس المرتبكة داخل مدينة لم تعد تعرف وجهتها في بلد لايدري مصيره.
فطر سام
نبتت الكتائب الإسلامية كالفطر السامّ: “البراء بن مالك”، “البرق الخاطف”، وسواها من التشكيلات التي استُحضرت من أرشيف الدم، كأن الماضي يصرّ على أن يعيد نفسه دون حياء، والمبرر الجيش احتاج الدماء، والإسلاميون قدّموا “الولاء”، وكان الزواج على مذبح الوطن، ووسط هذا الخراب، كان البرهان يتقن لعبته المزدوجة: في العلن يعلن رفضه لعودة المؤتمر الوطني، وفي السر يحيك لهم خيوط الإنقاذ مجددًا داخل ثكنات الجيش وأروقة الإدارة. والحقيقة التي يعرفها الجميع هنا، ولا يبوح بها أحد، أن البرهان لم يعد يملك رفاهية الاختيار: فإمّا أن يستند إلى حلفائه الإسلاميين، ويتحمل فاتورتهم الثقيلة، أو يفتك منهم باحتمالات مفتوحة، فالرجل بدونهم جسد أعزل، ومعهم جثة مُحنّطة بأيديولوجيا منفّرة.وحيث كل شيء معلق على الحافة، يتقاطع الخوف مع المكر: قائد الجيش يخشى أن تنمو الكتائب خارج سيطرته، والإسلاميون يخشون أن يُضحَّى بهم على مذبح التسوية. وبين هذا وذاك، تتحوّل بورتسودان إلى غرفة انتظار طويلة، لا تُضاء إلا بأزيز المؤامرات.
حبل مشدود
اليوم يقف البرهان على حبل مشدود فوق حفرة من نارين: نار الحرب التي تأكله ببطء، ونار الشرعية التي تُحرّمه من حلفائه. والدرس القديم ما زال حاضرًا في ذاكرته: كل من فتح الباب للإسلاميين، دخلوه، ثم أحرقوه، أو تركوه خلفهم في الظلام، فالواضح أن بورتسودان اليوم ليست مدينة آمنة. بل نقطة اشتعال. فالمدينة، التي كانت يوماً ميناءً للوطن، صارت الآن مرآة لخيبة كاملة، وساحة مفتوحة لمعركة لم تُحسم بعد، لكنها بدأت.
في كل زاوية من المدينة حديثٌ يتهامس به الناس جهراً، كأن الأسرار لم تعد أسراراً. رئيس الوزراء المعيَّن حديثاً وجد نفسه عالقاً في دوامة عاتية، لا يقوى على مجابهة أمواجها، فغدا مجرد صدى يتردد لما يقوله قائد الجيش. أما الأخير، فيلعب على كل الحبال، والحبال نفسها بدأت تلتف حول عنقه، في جنيف، بعيداً عن عيون الخرطوم وضجيج بورتسودان، جلس الفريق أول عبد الفتاح البرهان أمام رجل البيت الأبيض المرسل خصيصاً: مسعد بولس. لم يكن اللقاء بروتوكولاً عابراً ولا جلسة مجاملة دبلوماسية، بل أقرب إلى مناظرة مغلقة بين من يملك السلاح على الأرض ومن يملك مفاتيح القرار في واشنطن.
القاعة الهادئة في فندق سويسري فخم بدت كأنها مسرحًا مصغرًا للصراع ساعات طويلة انقضت، والأوراق تتناثر بين الطرفين: وقف إطلاق نار شامل، ممرات إنسانية، البحر الأحمر، الذهب، ممرات التهريب، والإرهاب وتوازنات الإقليم. كان كل ملف يفتح كأنه حجر يُلقى في بحيرة راكدة.
البرهان بدا بحسب المصادر أكثر صرامة وهو يكرر أن الدعم السريع لن يكون جزءاً من مستقبل الحكم، بينما كان بولس ينصت ببرود المحترف، يدوّن ثم يرفع بصره ليذكّر أن واشنطن لن تمنح دعماً بلا انتقال مدني واضح. كان المشهد أشبه بلعبة شطرنج، كل طرف يحرك قطعته بحذر، والساعة تقترب من نهاية اليوم.
وعندما غادر البرهان القاعة متوجهاً إلى المطار، كانت وجوه مرافقيه مشدودة، يدركون أن ما قيل في جنيف لن يبقى في جنيف. وحين هبطت طائرته في بورتسودان فجراً، سبقته الأخبار إلى الأسافير: ، تسريبات، وشائعات تتطاير كالنار في الهشيم. المدينة التي لا تعرف الكتمان التقطت الهمس وحولته إلى صخب، لتصبح الرحلة السرية حديث العلن.
في الداخل، حمل اللقاء رسائل متشابكة: الجيش يقدم نفسه ضامناً للأمن والاستقرار، مقابل اعتراف دولي بدوره، بينما الأميركيون يلوّحون بالعقوبات والضغوط، ويغزلون خيوطاً دقيقة من سياسة العصا والجزرة. وفي الميدان، كانت المدافع تحسم لصالح الجيش في عدد من المواقع، لتمنحه أوراقاً إضافية على الطاولة، لكنها هي أيضًا مشروطة.
أما البحر الأحمر، فظل حاضراً كالشبح في كل سطر من المحادثات: ممرات التجارة العالمية، الموانئ، الاستثمارات، والمخاوف من نفوذ إيراني يتسلل عبر المياه. بدا واضحاً أن معركة السودان لم تعد معركة مدن فقط، بل معركة أمواج ومضائق وممرات بحرية لا تقل خطورة عن توازنات السياسة الداخلية نفسها.
مشهد بلا إسلاميين
في النهاية، خرج اللقاء برسالة واحدة: السودان عاد إلى قلب رادار البيت الأبيض، لكن بملف مفتوح على كل الاحتمالات؛ شراكة مشروطة، حسم ميداني، أو صفقة استراتيجية كبرى. والمدينة ـ مثل عادتها ـ ستظل تنسج حكاياتها: بين همس الليل في جنيف، وضجيج الصباح في بورتسودان.
في تطور لافت ومن واشنطن، يدوّن المحلل السياسي الأمريكي كاميرون هدسون تغريدة يقول فيها: “كل من تحدثت إليهم، من واشنطن إلى بورتسودان إلى أبوظبي، يتفقون أن لا مكان للإسلاميين في مستقبل السودان”. ويستشهد بمقال آخر للباحث حسين عبد الحسين، طلب فيه من المجتمع الدولي تصنيف جماعة الإخوان في السودان كمنظمة إرهابية. صوتٌ آخر من المنفى يقرع الجرس: الإسلاميون، بحسب عبد الحسين، هم “وقود الحرب” وتحالفهم مع الجيش ليس إلا رباطاً هشّاً يحافظ على نار الصراع متقدة، وذاك موقف جديد من واشنطن التي كانت ترى في المبتدأ ان الحرب يمكن انهائها بتقاسم الثروات، لتعود الى المبتدأ ان الحرب ينهيها ابعاد الإسلاميين عن المشهد.
وتبدأ خطوات عملية في القاهرة، يعتقل الأمن المصري المصباح أبوزيد، قائد ميليشيا “البراء” الموالية للإسلاميين، الخبر يقع كالصاعقة على حلفاء الخرطوم، ويكشف أن حتى أكثر الداعمين التقليديين بدأوا يتوجسون من هذا التحالف، ولم يكد الإسلاميون يفيقون من ضربة المصباح لتصلهم رسالة عبر حليفهم القوي قطر، ان لامكان لكم في مشهد مابعد الحرب، الانزواء في الصفوف الخلفية افضل لكم وللسودان.
المشهد الأخير يبقى مفتوحاً: خطة السلام مؤجلة، الذهب والنفط رهائن تحت الركام، والأطراف المتنازعة تحفر خنادقها أكثر فأكثر. لكن هناك قناعة واحدة تتردد في أروقة السياسة والإعلام: لا مستقبل للإسلاميين في السودان، وإن تجاهل العالم ذلك، فستبقى الحرب دائرة بلا نهاية.