رحيل مباغت للناقد أبو القاسم قور وشهادات عنه

مغيرة حربية

غيّب الموت عصر الأربعاء، 20 أغسطس 2024، في القاهرة البروفيسور أبو القاسم قور حامد، أستاذ النقد والدراسات الدرامية بقسم الدراما، بعد صراع قصير مع المرض. 

ونعى اتحاد تجمع الفنانين السودانيين بمصر الراحل. وقال إن غيابه فقدان للوطن والعلم والمعرفة، وكان الراحل علماً من أعلام الفكر السوداني وصوتاً أكاديمياً ملتزماً، وساهم بعطائه العلمي والبحثي في بناء أجيال، وترسيخ قيم العدالة، وترقية الحوار، وإشاعة ثقافة السلام. وشكل رحيل أبو القاسم صدمة وحزنًا خيم على المشهد الثقافي السوداني ووسط أصدقائه وتلامذته.

تخرج أبو القاسم قور في المعهد العالي للموسيقي والمسرح، متخصصاً في النقد والدراسات الدرامية، وهو عضو اتحاد الكتاب السودانيين. عمل أستاذاً لمادة النقد في كلية الموسيقى والدراما، ومن الحاضرين في المشهد الثقافي بقوة، في الصحف والمنتديات والمهرجانات، منذ نهايات الثمانينيات وحتى رحيله لاجئاً بمصر، وهو أول من فتح المسرح على موضوعات التنمية وحقوق الإنسان والسلام.

أسس مركز دراسات السلام بجامعة السودان. وجسر العلاقات بين المسرح السوداني وبعض المسرحيين الأفارقة في كينيا وأوغندا من خلال موضوعة المسرح التنموي، وله تجارب في كتابة القصة القصيرة.

صدرت له خمسة كتب، منها الفلسفة الغربية والمذاهب المسرحية: مقاربة نظرية الدراما من التطهير إلى التحمل، ومقدمة فى دراسات السلم والنزاع، وحقوق الإنسان وثقافة السلام والمسرح التنموي، ورواية بعنوان: ثلاثية خراب سلطنة بارفوسيك، ومسرحية الحرب المرفوضة.

يصف السر السيد، الكاتب والناقد المسرحي، في شهادته عن الراحل أبو القاسم قور، أنه كان ناقداً ذا نزوع حفري، يسعى لتقديم مقاربات مختلفة ومغايرة، قدَّم نقداً لنظرية التطهير، وهي نظرية أساسية في المسرح، وكان يثير جدلاً واسعاً. “من أوائل النقاد الذين غيروا المكان في مفهوم المسرح وربطه بعمل المنظمات وحقوق الإنسان والتنمية منذ وقت مبكر، في المجلد وكردفان، مع مجموعة ربيع يوسف فيما عرف بالمسرح التنموي، وهو بلا شك أحد أول رواده”. يقول السر السيد ومن ثم يضيف: “قور فتح الناس على تجارب مختلفة جديدة على نشاط المسرح السوداني، في قضايا التنمية وتقنياتها في فضّ النزاعات وبناء السلام”.

ويقول عنه الكاتب والناقد عصام أبو القاسم، إنه من الكتاب الذين يفرضون احترامهم، مهما اشتدّ الاختلاف معهم، واختلف معه كثيرون، خاصة في الوسط المسرحي، سواء بسبب كتاباته النقدية الجريئة واللاذعة، أو مواقفه السياسية، أو سخريته وتهكمه على ما كان يراه دون المستوى اللائق بمسرح له سمعته التاريخية.

ويضيف: لقد كان الراحل معتداً بنفسه وبمعرفته العميقة بتاريخ المسرح الغربي وتجاربه، لكن الصورة التي تشع في ذهني الآن هي تلك المرتبطة بمشروعه الأكاديمي والثقافي الذي كرّس له وقته وجهده: “المسرح وثقافة السلام”. لا يمكن لأحد أن ينكر كيف أسهم هذا المشروع في تقريب العديد من المسرحيين الشباب من قضايا وتجارب فنية واجتماعية متعددة. فقد أوفدهم المركز الذي كان يديره الراحل في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في رحلات إلى المناطق النائية والهامشية من السودان، وبلا شك أن تلك الرحلات أثرت في خبراتهم وعمقت معارفهم بشكل كبير، وهي أثمرت مزيجًا من القصص والمواقف والصور عن المجتمعات المتأثرة بالحروب، وصيغت في عروض أدائية بهدف ترسيخ ثقافة السلام.

انشغل الراحل كثيراً بتطوير تجربة هذا المركز وسعى لترسيخ حضوره ونيل اعتراف أوسع به، خاصة على الصعيد المحلي، وهو ما استنفد وقته وعزله لفترة ليست بالقصيرة عن مجتمع المسرح في الخرطوم. ومن الجيد أنه وثّق جهوده في كتاب صدر مؤخرًا عن الهيئة العربية للمسرح، ما سيتيح للأجيال القادمة من تقييم تجربته.

“في تقديري، هذه تجربة تستحق كل التقدير لأنها فتحت أفقًا جديدًا أمام المسرح السوداني، حين جعلته وسيلة مباشرة وملموسة لصنع السلام والتنمية في البلاد. قد تكون التجربة أخفقت في بعض المواضع، لكنها بلا شك نجحت في مواضع أخرى”. يقول عصام أبو القاسم ومن ثم يضيف: “كان قور صانع سلام، ويا له من لقب فريد في زمنٍ طغت فيه الحروب. زمن جاحد لم يجد فيه هذا الرجل المتعلم والمستنير، الذي أنفق عقودًا عديدة من عمره في دعم مسيرة التعليم المسرحي وصاحب المبادرات النوعية، أي تقدير مادي أو معنوي. وها هو قد رحل دون أن يورث عائلته بيتًا أو رصيدًا بنكيًا، كما قال في آخر تدوينة له على فيسبوك. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته”.

يقول تلميذه راشد بخيت، الكاتب والناقد، إن أبو القاسم قور لم يكن مجرَّد ناقد مسرحي أو حتى أستاذ للنقد في كلية الموسيقى والدراما، فهو شخص متعدِّد الاهتمامات والمشارب، ومهتم بالعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة وحقوق الإنسان والتحليل الثقافي. يعصف بأذهاننا سنوات الدرس، لأنه لا يتقيَّد أو يكتفي بمفردات المنهج المتكلِّسة فحسب، بل ينفتح نحو ما هو عصي على الإمساك ومغاير للبسيط. “اهتمامه النظري فاق بقية اهتماماته. فهو قليل النشر وقليل الكتابة عن المسرح التقليدي ووطَّن نفسه وممارسته، منذ أزمان بعيدة، على فحص نظريَّة المسرح الأرسطي وجعل المسرح أكثر ارتباطاً بالأنثربولوجيا والمجتمع والتاريخ وحقوق الإنسان. ولم تكن هذه الاهتمامات عنده مجرَّد نزوة عابرة لنزق النقاد بشكل عام إنَّما تجذَّرت في وعيه وممارسته للمسرح وانشغاله به حتى في معمعان الحرب وقضايا السلام”. يقول راشد بخيت ومن ثم يضيف: “لم يكن منتظماً في التدريس ولا ملتزماً بجدول محاضراته لكنه في اليوم الذي يجمعنا للدرس، تتمنى لو أن محاضرته لا تنتهي أبداً، ومن مأثوراته التعليميَّة الخاصة ولعه الشديد بتيار الواقعية الجديدة وجون أوزبورن ومسرحيته ذائعة الصيت (أنظر خلفك بغضب). كان محباً لإنثربولوجيا مسرح أوجينو باربا وأسطورة الإله أودن الاسكندنافيَّة في عصر الفايكنج. انشغل بتيارات المسرح ما بعد الأرسطي وزاوج بين المسرح التفاعلي وقضايا الحرب والسلام في دارفور وعموم السودان”.

ويصفه أنه كان ساخراً يحب أن يستفز أنداده بعبارات وأفعال مشاكسة. تعلو وجهه ابتسامة ماكرة ويشع من عينيه بريق الذكاء البدوي. متقلِّب المزاج، أنيق ومهندم وحليق الذهن تارةً وفوضوي غير آبه تارة أخرى. “بدأ حياته الفكريَّة والنقديَّة إسلامي التوجه والمزاج، لكنه لم يكن مثل أولائك الإسلاميون العاطلون عن الفكر والموهبة. كان كثير القلق، نزَّاع للحوار والقراءة والمثاقفة، وشديد الإنكار لقناعاته القديمة ومتجدَّد على الدوام. لذا لا غرابة من أن يسمع عنه أحياناً أنه كادر إسلامي متزمت، وتسمع أخرى عن قور الإنسان المحب والمؤازر، وقور المختلف ذو البصيرة النقديَّة العالية الدربة. نعم كان كل هذه الأنوات وأكثر. إنه مسيري بدوي قلق، لا تستطيع الأنماط أن تحبسه في صورة معيَّنة”.

يقول المخرج ربيع يوسف الحسن، إنه تعرف على الدكتور أبو القاسم قور معرفة أولية بسيطة حين كان طالباً بمعهد الموسيقى والمسرح، وهو أستاذ النقد والدراسات المسرحية، ويضيف: “لكن توسعت معرفتي به حين منحني فرصة أن أعرفه بشكل دقيق وعميق وذلك حينما رشحني له أصدقائي من دفعتي حسن عثمان وجمال سليمان وعاطف آدم عجيب، الذين سبقوني في العمل معه وحين كانوا بصدد تقديم مسرحية (البرامكة) تأليف دكتور قور نفسه، رشحوني لإخراجها ولحسن حظي ولكرمه وافق على ذلك رغم أنها ستكون تجربتي الأولى. في هذه التجربة قفز بي قور لمراحل متقدمة في دروس الإخراج والمسرح والقيادة، لا لكونه فقط خرج بالدرس من القاعة للحقل المجتمعي وإنما لإننا اكتشفنا أن المسرح إن لم يكن بين الناس وللناس وبالناس فهو لا مسرح ولا يحزنون”. وهي تجربة –يقول الحسن- كانت ضمن مشروع أطلق عليه قور التدخل الثقافي من أجل بناء سلام القواعد، وكان فضاؤه غرب كردفان، حيث قدمنا أكثر من ثلاثين عرضاً لمسرحية البرامكة في ولاية غرب كردفان، حلَّالها، قراها، مزارعها ومراعيها حتى الميرم وتخوم أبيي، عروض كان ضوؤها الشمس أحياناً وأحياناً نيران الحطب، لا فرق طالما وصلنا للحلال أو المزرعة ليلاً وعلينا مغادرتها الصباح بعد تقديم العرض ومشاركته مع أصحاب النيران وأضوائها.

يصف ربيع تجربته مع قور بـ”الرائدة بامتياز للمسرح بشكل منتظم ومُنظر له في مناطق النزاع، فقور من أوائل الذين نظروا وقدموا لهذا المسرح في مناطق النزاع والصراعات، وظلت ممتدة لسنين عديدة وعممناها في جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق”.

ويضيف: “أن الجانب الثاني في سياق تجربة البرامكة هو أنها كانت نتاج لنفاج حديث لحد كبير بالنسبة للمسرح السوداني، وأقصد به فضاء الإنترنت الذي سيجعل منه قور مدخلاً واتصالاً للمسرح السوداني بمحيطه الإقليمي والإفريق والعالمي|. صحيح سبقه العديدون في التعامل مع النت ولكن ليس صحيحاً سبقهم له في جعله فرصة للمسرح السوداني لا فرص لهم منفردين.

“قور لا شك عندي هو من أوئل من أوجدوا المسرح في مناطق النزاع ومن الأوئل الذين ربطونا بالعالم سيما الأفريقي منه”. يقول الحسن ومن ثم يضيف: “متى ما احتجت أسرعت إليه قبل أن يقسم ما بجيبه لمن حوله، وعزائي أنه دائماً ما يجعل من الخلاف والنقاش فرصة لتمتين المحبة والحوار.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى