بحسب دراسة نشرتها لجنة المعلمين السودانيين فإن جميع العاملين في السودان وبلا استثناء يقعون تحت خط الفقر المدقع، وهي الحالة التي يعجز فيها الإنسان بالوفاء بأدنى متطلبات الحياة.
اللجنة نشرت تعميمًا صحفيًا للدراسة التي أجرتها عبر مكتبها الاجتماعي، وأجرت من خلالها مقارنة الأجر المتحصل عليه من العمل في مقابل القيمة المطلوبة لتسيير يوميات الحياة.
تقدر الدراسة راتب العامل في مدخل الخدمة بـ “3” دولارات فيما تبلغ كلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد بـ “485” دولار شهريًا وهو الأمر الذي يعيد طرح السؤال كيف يعيش السودانيون؟ بالكاد يوفر الراتب للعامل الحصول على نصف كيلو جرام لحمة، هذا في حال التزمت الحكومة بتوفير الدولارات الثلاثة في مواعيدها في ظل الحديث حول تأخر الرواتب وربطها بين حين وآخر بالموقف من الحرب الدائرة في البلاد، لجهة أن الحكومة في بورتسودان هي التي تدفع الرواتب.
حسنًا وقبل أن تعمم لجنة المعلمين دراستها الاجتماعية المتعلقة بتمدد الفقر كانت قد أصدرت بيانًا انتقدت فيه قرارًا لوزير التربية والتعليم في السودان، بخصوص إعفاء أبناء شهداء المعركة الدائرة الآن والمشاركين فيها من دفع الرسوم، ما عدته اللجنة أعترافًا بمشاركة الأطفال القصر في الحرب، التي تعد عاملاً أساسيًا في تمدد الفقر وفي ازدياد “المسغبة” حيث يتحول الفقر نفسه لمجرد حالة عرضية في بلاد يواجه معظم سكانها خطر الموت “جوعًا” وفقًا للأرقام التي تقول بها المنظمات المتخصصة، حيث تعدو حتى الدولارات الثلاثة بلا قيمة حين لا تجد ما يمكن أن تشتريه بها في الأسواق في بلاد يتغذى فيها الناس بذات الطعام الخاص بالحيوانات.
كانت “التكايا” التي توفر الوجبات للسودانيين التعبير الأبلغ عما وصل إليه حالهم مع الحرب، كما أنها كانت الصورة الأكثر وضوحًا على تمدد ظاهرة العوز في كامل البلاد المفارقة المحزنة، أن من كانوا يدعمون التكايا منذ أول وهلة انتهى بهم الحال في آخر المطاف لانتظار ما يأتيهم من ذات التكايا وهو ما ينبئ عن القدر الكبير من التحولات التي ضربت المجتمع السوداني نتيجة لتمدد الحرب، أمر يمكن تفسيره من خلال أن الراتب نفسه يساوي نصف كيلو جرام من اللحم الذي ارتفعت أسعاره لأن مراعي الثروة الحيوانية في كردفان ودارفور تحولت لمسارح عمليات، بينما أجهزت عمليات النهب الممنهج على الثروة الحيوانية في مناطق البطانة الجزيرة وسنار وقبلها الخرطوم.
الدراسة تنطلق أيضًا من نقطة مهمة تتعلق في هذا الاتجاه بتآكل قيمة العملة الوطنية وفي التراجع الكبير لقيمة الجنيه السوداني في مقابل العملات الأخرى، وهو تراجع منطقي وموضوعي بحسب خبراء الاقتصاد، ويعبر بشكل كبير عن عدم توازن بين الصادرات والواردات، ستنهار العملة في بلد توقفت فيها كل مشاريع الإنتاج وفقدت سلطتها السيطرة على المداخل والمخارج. لا زراعة ولا مسارات آمنة للثروة الحيوانية في طريقها نحو التصدير، مرتبطًا كل ذلك بالصرف العالي على عملية الحرب وبشكل يومي، مقرونًا كل ذلك بالمشكلات الخاصة بالجهاز المصرفي وتفشي الفساد في هذا الواقع سيتواصل انهيار العملة.
في ظل استمرار تآكل العملة الوطنية وهو أمر يشكل ضغطًا جديدًا على السودانيين يبشر رئيس مجلس الوزراء كامل إدريس بتشكيل لجنة للطوارئ الاقتصادية وقراراتها لمواجهة تدهور العملة، وهي قرارات تتعلق بتنظيم الصادر والوارد وإنشاء محفظة موحدة للذهب بغرض محاربة التهريب، معتبرًا أن مكافحة التهريب يمثل أهم المطلوبات في هذا الاتجاه في وقت يتحدث فيه البعض عن عودة الحملات الأمنية لمطاردة تجار العملة في بورتسودان التي نقلوا نشاطهم إليها عقب خراب الخرطوم، كتأكيد على استمرار ذات النهج القديم وانتظار نتائج مغايرة.
الفقر الناتج عن تآكل العملة بسبب تمدد التهريب يعيد طرح ذات الأسئلة القديمة عن المهربيين أنفسهم، وفي المقابل عن عجز الدولة عن مقاومتهم ووضع نهاية لنشاطهم وعن هل يتم التهريب بعيداً عن الدولة أم بدعم الدولة وتحت عيونها، وكيف يمكنك أن تنهيه دون أن تضع نهاية للواقع الملتبس بسبب الحرب. ولجنة الطوارئ الاقتصادية التي تم تشكيلها لن تستطيع تغيير شيء من الواقع ولا تعدو سوى كونها طلقات فارغة عاجزة عن الوصول لجسد الأزمة الحقيقية، حيث يستحيل أن يتم تطبيق سياسات ولوائح في اقتصاد قائم على أساس الأوامر و”التصديقات”.
عند التساؤل عمن أفقر السودانيين تأتيك الإجابة ليست الحرب وحدها بل معها حكومة “اللصوص والسماسرة” والتوصيف هنا لمحسوبين على تيار سلطة الأمر الواقع نفسها في سياق انتقادهم لما يعرف بسياسات الإجرام واللصوصية المنظمة التي تتم خلف الأبواب المغلقة وفي المكاتب، وهي تتعلق هنا بـ “التصديقات” التي يمكن الحصول عليها من المتنفذين وفقًا لمنهج “ادفع ومشي أمورك” وهو السلوك الأكثر بروزاً في الفترة الأخيرة، حيث تلاحق المسؤولين اتهامات بالفساد والمحاباة، وتحويل التوقيعات الرسمية على التصديقات من أجل تحقيق مصالح ذاتية. دون إهمال الجوانب المتعلقة بزيادة الضرائب والجمارك والجبايات غير الخاضعة إلا لقانون من يسعى لتحصيلها.
يتحدث الكثيرون عن بضائعهم المكدسة في الميناء بسبب الزيادات التي تمت على قيمة الجمارك بواسطة وزارة المالية، وبالطبع عجزهم عن تخليصها بسبب زيادة القيمة لكن سرعان ما يتبرع آخرون لهم بالحلول المتمثلة في ضرورة الوصول إلى “متنفذ” يفتح للبضائع طريقها نحو الخروج للأسواق بعد الدفع وهي الصورة التي تعبر عن الحال في سودان الحرب.
بعيداً عن أسواق الحكومة وفي أسواق “الشعب” يمكنك أن تقرأ الفقر في وجوه الناس، دون الحاجة للحصول على الورقة التي أعدتها لجنة المعلمين يمكنك أن تقرأ الفقر في وجه “معلم” يجاهد من أجل الحصول على راتبه الشهري، وقبل أن ينتهي من الجهاد الأصغر يدخل إلى السوق حيث الجهاد الأكبر وهو الحصول على الحد الأدنى من المتطلبات “فول عدس ودقيق”، وحين يعجز عن شرائها يمضي مع آخرين نحو “التكايا” للحصول على وجبة تجعله قادرًا على الجلوس تحت خط الفقر وبالطبع على الوقوف خلف خطوط الموت.