تصعيد إثيوبي إريتري والسودان في عين العاصفة 

 

بقلم: م. فؤاد عثمان عبد الرحمن

“خطاب أسياس أفورقي ينذر بالخطر”. بهذه العبارة لخّص المحلل السياسي أبيل أباتي ديميسي من معهد “تشاتام هاوس” في أديس أبابا، ما اعتبره تحولًا فارقًا في الموقف الإريتري تجاه إثيوبيا. فرئيس إريتريا، ولأول مرة منذ أشهر من التوتر والشكوك، قدّم مقابلة مفصلة عبّر فيها عن قطيعة رسمية مع أديس أبابا، مؤكدًا أن العلاقة وصلت إلى نقطة اللاعودة.

جاء هذا الموقف في مقابلة مع الإعلام الرسمي الإريتري بتاريخ 19 يوليو الماضي، حيث اتهم أفورقي الحكومة الإثيوبية بالتحضير للحرب، ووصف طموح رئيس الوزراء آبي أحمد لتأمين منفذ إلى البحر الأحمر بأنه “خطة شخص مجنون” و”استفزازات صبيانية”. وأضاف أن رسالة إريتريا واضحة: “لا! ومن الأفضل أن تبقى في مكانك”، في إشارة مباشرة إلى آبي أحمد. وتساءل كيف يمكن لإثيوبيا اتهام إريتريا بينما تقوم يوميًا بشراء الأسلحة وتعزيز استعداداتها العسكرية. وأكد أن بلاده لا تسعى للحرب لكنها مستعدة للدفاع عن نفسها إذا فُرضت عليها.

هذا التصعيد اللفظي ترافق مع مؤشرات ميدانية مقلقة؛ إذ أعلنت إريتريا في فبراير الماضي تعبئة عسكرية شاملة، فيما حشدت إثيوبيا معدات وقوات قرب الحدود في مارس، ما زاد من حدة التوتر.

لكن الخلاف بين الجارتين لا يقتصر على ملف البحر الأحمر، بل يتشابك مع الانقسامات العميقة في إقليم تيغراي. فبحسب تقارير، نشأ تحالف جديد بين بعض عناصر جبهة تحرير تيغراي ومسؤولين في أسمرا ضد الحكومة الفيدرالية الإثيوبية، تحالف غير متوقع بالنظر إلى الحرب الدامية التي خاضها الطرفان قبل اتفاق بريتوريا عام 2022. وقد أكد قيتاشو ردا، زعيم الفصيل الموالي للحكومة من جبهة تيغراي، أن الجبهة تسعى للاستيلاء على السلطة بالقوة، واصفًا الحلف بين النظام الإريتري والفصيل المنشق بـ”غير المقدس”، ومحذرًا من أنه قد يقود إلى حرب جديدة على شعب تيغراي.

تاريخ العلاقة بين جبهة تحرير تيغراي والقيادة الإريترية مليء بالتقلبات. ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحالفت الحركتان ضد نظام منغستو حتى سقوطه واستقلال إريتريا عام 1993. لكن الأمور انقلبت جذريًا مع حرب الحدود (1998–2000)، لتتحول العلاقة إلى عداوة مفتوحة. واليوم، بعد ربع قرن من الصراع، نشهد اصطفافات جديدة، إذ يقف النظام الإريتري إلى جانب فصيل دبرصيون قبرميكائيل في مواجهة الحكومة الإثيوبية، في ظل انقسام التيغراويين إلى جناحين متناحرين.

لفهم خلفية هذا التحول، لا بد من التذكير بأن حرب تيغراي (2020–2022) شهدت تحالفًا بين أديس أبابا وأسمرا ضد جبهة تحرير تيغراي. انتهت الحرب باتفاق بريتوريا الذي استثنى إريتريا رغم مشاركتها الفعلية، وأبقى قواتها لفترة في مناطق متنازع عليها، ما أثار قلق أسمرا وأشعرها بأنها خارج حسابات ما بعد الحرب. ومع استعادة الحكومة الإثيوبية زمام المبادرة، برزت من جديد طموحات آبي أحمد التوسعية، وأبرزها المطالبة بمنفذ بحري، الأمر الذي أجج الخلاف مع إريتريا والصومال على حد سواء.

ورغم التهدئة المؤقتة بين إثيوبيا والصومال بوساطة تركية أواخر 2024، يرى مراقبون أن احتمال اندلاع حرب بين أديس أبابا وأسمرا لا يزال قائمًا، خاصة في ظل دعم كل طرف لمعارضي الآخر؛ إذ فتحت أسمرا قنوات مع قوات الفانو في أمهرا وبعض العفر الإثيوبيين، بينما تحتضن أديس أبابا معارضين إريتريين وتوفر لهم الدعم.

السودان كساحة تنافس جيوسياسي :

رغم أن الحرب السودانية اندلعت في الأصل من داخل تناقضات الدولة الوطنية المازومة، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ساحة تجاذب إقليمية. وأحد أبرز مظاهر ذلك التنافس الإثيوبي – الإريتري المتصاعد، فكل من أديس أبابا وأسمرا ينظر إلى المشهد السوداني باعتباره مساحة لتعزيز النفوذ الاستراتيجي وتأمين الحدود وتوظيف الفاعلين المحليين في حسابات إقليمية أعقد. فمنذ اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل 2023، انخرطت العاصمتان في مقاربتين متباينتين لمسارات الأزمة، تعكس كل منهما حسابات جيوسياسية أوسع.

منذ البداية، حاولت أديس أبابا استثمار عضويتها الفاعلة في منظمة “إيغاد” لتقديم نفسها كمنصة للوساطة، معتبرة الصراع السوداني فرصة لتعزيز دورها القيادي في الإقليم. مستعيدة في ذلك تجربتها السابقة بعد سقوط البشير عام 2019، حين لعبت دورًا محوريًا في التوسط بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، وصولًا إلى توقيع الوثيقة الدستورية. حاولت إثيوبيا تكرار هذا الدور، طامحة إلى الظهور مجددًا كوسيط قادر على جمع الفرقاء السودانيين إلى طاولة التفاوض، بما يمنحها زخمًا سياسيًا داخليًا وخارجيًا.

في المقابل، تعاملت إريتريا مع “إيغاد” بحذر شديد، معتبرة أن آلياتها تصاغ ضمن توازنات تميل لتعزيز نفوذ أديس أبابا ونيروبي، وربما تخضع لتأثيرات غربية لا تنسجم مع رؤيتها للأمن القومي. لذلك، تبنت أسمرة مسارًا موازياً، يقوم على بناء تفاهمات ثنائية مع قوى إقليمية وازنة، في مقدمتها مصر – الخصم التقليدي لإثيوبيا – والانفتاح المباشر على السلطة القائمة في بورتسودان، متجاوزة إطار “إيغاد”. هذا النهج عكس اصطفافًا إريتريًا مع المقاربة المصرية الداعمة للمؤسسة العسكرية السودانية، ضمن شبكة أوسع من التحالفات المناوئة للمحاور المدعومة من الدوحة وأنقرة، والمتوجسة من الانخراط في أجندات تعتبرها أسمرة “مصممة خارج المنطقة”.

هذا التباين في الرؤى جعل من السودان ساحة تنافس غير معلن بين الجارتين؛ إذ ترى أديس أبابا في تحركات أسمرة مع القاهرة وبورتسودان تهديدًا لدورها كقوة وسيطة، بينما تنظر أسمرة إلى المسعى الإثيوبي بوصفه محاولة لترسيخ الهيمنة الإقليمية، بما ينعكس لاحقًا على ملفاتها الحساسة مع إثيوبيا، من الخلافات الحدودية إلى مساعي الأخيرة للحصول على منفذ بحري عبر الأراضي الإريترية.

وقد تُرجمت هذه المقاربات على الأرض؛ إذ أشارت تقارير متواترة إلى وجود فصيل من مقاتلي تيغراي الموالين للسلطات في أسمرة داخل الأراضي السودانية، بترتيب وتنسيق إريتري، وبدعم من حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، في سياق يتقاطع مع الصراع ضد مقاتلي الدعم السريع. كما رُصدت مليشيات سودانية تلقت دعمًا وتدريباً في إريتريا، أُعلن عنها بشكل محدود، وقد تجد نفسها لاحقًا منخرطة في جبهات جديدة. هذه المعطيات تثير تساؤلات حول توظيف الساحة السودانية في صراعات إقليمية أوسع، خاصة مع الدعم العلني الذي يقدمه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للقائد العام للقوات المسلحة السودانية عبدالفتاح البرهان، الذي تتوقع أسمرة – عند الحاجة – أن يردّه البرهان بموقف مماثل، ما قد يزيد تعقيد المشهد الأمني والعسكري الداخلي.

إزاء هذا التقارب الإريتري – السوداني، تحركت إثيوبيا بقلق لافت، حيث قام مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين، برفقة القيادي السابق في جبهة تحرير تيغراي الموالية للحكومة الفيدرالية قيتاشو ردا بزيارة إلى بورتسودان قبل أشهر قليلة، في خطوة تحمل رسائل سياسية واضحة ومخاوف معلنة وغير معلنة في ظل الأوضاع المضطربة.

ختامًا، فإن أي انفجار جديد في العلاقة الإثيوبية – الإريترية سيترك أثرًا مباشرًا على السودان الغارق في حربه المدمرة. فالتوترات في القرن الأفريقي ستعيد رسم التحالفات، وتزيد تدفقات السلاح والمقاتلين، كما ستستنزف جهود الوساطة الإقليمية والدولية لوقف الحرب السودانية عبر انشغال الوسطاء الرئيسيين بأزمة جديدة في المنطقة. وإضافة إلى ذلك، فإن أي اضطرابات على الحدود الشرقية للسودان ستضاعف التحديات الأمنية والإنسانية، خاصة في ظل هشاشة الأوضاع في الولايات الحدودية، وتراجع الدعم الإنساني من المانحين إلى مستويات خطيرة.

Exit mobile version