عن الشهيد والشهادة

السر السيد

ثمة مسافة ما، بين الشهيد، والشهادة، لا يعرفها ولا يتذوقها إلا الشهيد نفسه، لأنها مرتبطة منذ البداية بنيته وكيفية إدارة هذه النية في اصطراعها بين حظ النفس الذي عمدته بكلمة واحدة، الرياء وبين التجرد لما خرج من أجله وهو الدفاع عن الحقيقة كما يراها هو لحظة خروجه حتى قتله، لذلك فالشهادة اختيار شخصي ذو حمولة فلسفية ووجودية حتى وإن خرج الشخص التزامًا بقرار لتنظيم ما أو لحركة ما.

 الشخص/الشهيد يخرج دفاعًا عن الحقيقة كما يراها هو وليس دفاعًا عن الحق كما يزعم البعض.. الحقيقة تقوم على التقديرات لذلك قد لا تكون ناجعة في كل الأحوال، بينما الحق صحيح وناجع في كل الأحوال إذ ليس بعده إلا الضلال، لذلك كان الحق حكرًا على الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين كما عند الشيعة، مع ملاحظة أن الحقيقة ليست خلوًا من الصحيح عقلًا، فالذي يُقتَل وهو يُخرج الناس من ديارهم ويغتصب وينهب ويهلك الحرث والنسل، ليس كالذي يُقتَل وهو يقاتل دفاعًا عن المستضعفين من الناس.. كلاهما بالطبع يقاتل عن الحقيقة كما يراها مع الفارق بين تقديرات كل منهما للحقيقة.

تكتمل هذه الفرضية حول الشهيد والشهادة والحقيقة والحق بأقحامها في المشهد السياسي السوداني الراهن قبل الحرب وبعدها، والوقوف عند البعض خارج سؤال الشهادة، الذين يمكن تسميتهم (بالمتفرجين) ويمكن تقسيمهم “القاعدين”، الذين يؤيدون هذا الطرف أو ذاك من أطراف الحرب ولكنهم قعدوا عن خوض الحرب لحاجة في أنفسهم، مع مقدرتهم على حمل السلاح، والمستضعفين الذين ينظرون لهذا الطرف أو ذاك كحلم لانعتاقهم وتحررهم بحسبانهم ضحايا الحرب بامتياز، والمناهضين للحرب مبدئيًا، وهم رواة الحرب من علٍ فهم من يناشد المتحاربين بالجنوح للسلم وهم من يُحصي الانتهاكات ويدينها، وهم من يتجولون بين أطراف الحرب بحثًا لإنهاء الحرب، ومع التنازع المحتدم بين أوار الحرب ومساعي السلام الكسيحة، ولأن الراوي ومهما كان عليمًا لا يستطيع التحكم المطلق في مسارات الحكاية التي يرويها، يَسقط بعض الرواة في أحابيل هذا الطرف أو ذاك.

الشهيد هي الكلمة التي كانت تربك ولا تزال المشهد السياسي قبل الحرب وبعدها.. إنها الكلمة التي جرت الخبرتين السلمية والمسلحة على إطلاقها على القتلى السلميين والمسلحين في قضية (سياسية) ما، فالذين قتلوا في المظاهرات إبان الحراك الثوري بآلة تحالف العسكر والدعم السريع أطلق عليهم البعض شهداء، والذين قتلوا في الحرب من الدعم السريع والبراءون على سبيل المثال أطلق عليهم مؤيدوهم شهداء، مع الإشارة إلى أن في إطلاق الكلمة عليهم لم يدعِ أحد أنها تأتي على سبيل التحقق كما في المعنى الإسلامي، كما أنه لا يستطيع أحد نفي تحققها بالمطلق، فقد يكون بعض القتلى ضمن كوكبة الشهداء الذين يتخذهم الله، فمن يحيط علمًا بالنوايا هو الله وحده.

إن محاولة البعض انتزاع لقب الشهيد خاصة من قتلى الإسلاميين، تبدو في ظاهرها وكأنها تدخل في الغيب وهروب نحوه ومن غير استحقاق للأسف، أما في باطنها فهي قفز على الحرب نفسها وطبيعتها، وقفز كذلك على النضال في مستواه المدني، فعندما تفتي الأخت حنان حسن أن الشهادة المستحقة لا تكون إلا في حالة حرب المسلمين مع الكفار، فإنها دون أن تشعر تصادر لقب الشهيد من الآلاف الذين سقطوا قتلى برصاص الديكتاتوريات وحبال مشانقها الغليظة، فمن المعلوم أن شهداء ثورات السودان وفي مقدمتها ثورة ديسمبر المجيدة، لم يتظاهروا ضد الأنظمة الديكتاتورية لأنها كافرة، أو عندما يكتب صديقي عبدالحفيظ مريود، ملمحًا أن دماء شهداء الإسلاميين قد “راحت شمار في مرقة” في الجنوب مما قد يعني أن تروح أيضًا في الحرب الراهنة.. ما يعنيني في قوله هذا هي فكرته المبطنة عن استحقاقات الشهيد على الأحياء، فكأني به وهو القائل على حق (الأرض.. مسرح الاختبار الإنساني)، يرى أن من استحقاقات الشهيد على الأحياء أن يتم تحقيق ما استشهد من أجله وإلا يكون راح “شمار في مرقة”. بدا لي أن مريود هنا ينظر بعين واحدة، فإذا كانت الأرض هي مسرح الاختبار الإنساني أو ليست الشهادة وفعل الاستشهاد داخل سيرورة الاختبار الإنساني هذا؟ النظر بعين واحدة هو تخطيه لما كانت تسعى إليه الحركة الشعبية الذي هو تحرير السودان.. كل السودان، وبناء السودان الجديد؟ فهل تمكنت الحركة من ذلك أم أنها جاءت شريكة في سلطة مع عدو الأمس وتخلت عن جبال النوبة والنيل الأزرق وأخيرًا اكتفت بالجنوب على علات هذا الاكتفاء. السؤال هل يمكن النظر لكل هذا بمعزل عن استشهاد من ذكرهم مريود؟. وأمر آخر عندما انسحب الدعم السريع من الخرطوم والجزيرة وجبل مويه بعد أن قدم آلاف الشهداء.. هل راح هؤلاء الشهداء شمار في مرقة!!؟ خاصة وأن بعض مقاتلي الدعم السريع قد رأوا هذا نوعًا من التراجع الذي يرقى للخيانة، وعندما انضمت بعض الحركات المسلحة الدارفورية إلى تحالف تأسيس الذي زبدته الدعم السريع صاحب النصيب المقدر في صناعة شهداء هذه الحركات. هل راح شهداؤهم (شمار في مرقة)؟.. دعك من كل ذلك، هل راح شهداء ثورة ديسمبر المجيدة وهم بالآلاف (شمار في مرقة)؟ إذ أن ما استشهدوا من أجله لم يتحقق وإنما اختطف كما يري البعض!!؟

مجمل القول إن الشهادة اختيار شخصي، وأن الشهداء عملهم الأساس في (الأرض.. مسرح الاختبار الإنساني)، وفق لحظة يقدرونها هم، لذلك يجب التوفر ولو على القليل من التقدير لهم باعتبارهم ذوات عاقلة، حرة، وليسوا موضوعًا للاستغلال، أو ضحايا، أو مضللين، كما يروج البعض، كما أنه من المهم الإشارة، إلى أنه ليس من استحقاقاتهم في كل الأحوال، أن يحددوا المستقبل للأحياء وإن كان يجب على الأحياء أن يسترشدوا بنورهم وإن لم يفعلوا فلن يروح الشهداء (شمار في مرقة)، وإنما سيغدون ضميرًا وطيفًا يوجع الأحياء أناء الليل وأطراف النهار.

أخيرًا من الطبيعي جدًا أن يشعر (المتفرجون) بأصنافهم الثلاثة، كل حسب موقعه تجاه الشهداء، بالخجل، أو الحب، أو الكره، أو الانزعاج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى