شهداء بدرجة VIP وآخرون على الهامش!

حيدر المكاشفي
في الحرب المنتنة والمهلكة الجارية حتى الآن التي التهمت الأرواح بلا رحمة، يطفو على السطح سؤال مزعج لا يريد الكثيرون التوقف عنده، هل هناك شهيد درجة أولى وشهيد درجة ثانية وشهيد سوبر وشهيد عادي وشهيد من الناس النقاوة وشهيد من ناس قريعتي راحت؟ وهل الشهادة، وهي في الأصل مقام إيماني ووطني رفيع أصبحت سلعة توزع على أساس الانتماء السياسي أو القبلي أو الحزبي، حتى كأننا أمام تصنيفات فندقية، فندق خمس نجوم، أربع نجوم، ومجرد لوكندة شعبية.. منذ اندلاع الحرب، تمتلئ الشاشات ومنصات التواصل بالمناحات وبيانات التمجيد. نسمع عن فلان الشهيد البطل المغوار الذي تقام له مراسم ضخمة، وتُعلق صوره، وتُدبج حوله المقالات والخطب وتقام المناحات، بينما آلاف آخرون قضوا في نفس المعركة أو في نفس القصف، لكنهم يُدفنون بصمت، كأن موتهم لم يكن أكثر من رقم إضافي في سجل طويل من الضحايا. هنا يظهر التمييز، بأن هناك (شهداء النخبة) الذين يملكون خلفية سياسية أو مكانة اجتماعية أو قرباً من قادة الحرب ومشعليها والضالعين فيها، وهناك (شهداء العامة) الذين لا نصيب لهم إلا الدفن المستعجل وصمت النسيان.. الظاهرة ليست جديدة في تاريخنا السياسي السوداني، فقد رصدناها منذ حرب الجنوب، كان هناك دائماً (شهداء رمزيون مميزون) يعلو ذكرهم، تقام لهم احتفالات ما يسمى عرس الشهيد، حيث يتقاطر القوم إلى منزل الشهيد وهم يطلقون الرصاص بكثافة، ويختلط دوي الرصاص بالهتاف بالأناشيد الجهادية بمكبرات الصوت، وتنتظم حلقات الرقص والعرضة وتنطلق حناجر النساء بالزغاريد وتهليل وتكبير الرجال إيذاناً بزف الشهيد إلى إحدى حوريات الجنة، وتنصب منصة عالية يتبادل من فوقها الخطباء المفوهون الحديث عن كرامات ومآثر ومجاهدات الشهيد وكيف أن جثمانه الطاهر كانت تفوح منه روائح المسك والعنبر والزعفران.. لكن في ثورة ديسمبر اختلف الأمر وكانت الشهادة جامعة، حين صار أي شهيد أيقونة للحرية والكرامة. لم يسأل أحد عن قبيلة الشهيد، أو حزبه، أو ولائه، كان يكفي أنه خرج يطالب بوطن أفضل وسقط في الطريق إليه. لذلك حمل الناس صور كل الشهداء بلا فرق ولا تمييز في كل مدن السودان، ورددوا أسماءهم كجزء من سردية وطنية جامعة.. أما في الحرب الحالية فقد عاد الحال إلى ما كان عليه في حرب الجنوب، إذ صار فيها شهداء VIP وآخرون هامشيون من العوام، فصار دم الشهيد نفسه خاضعاً لتقييم سياسي إذا كان ينتمي إلى معسكر معين، نُسجت حوله بطولات أسطورية، المفارقة أن الموت في ساحة الحرب لا يفرق، الرصاصة التي قتلت ابن القرية البسيط هي نفسها التي أسقطت الضابط الرفيع أو القائد البارز. ومع ذلك، تختلف المراسيم، ويختلف الخطاب. بل وصل الأمر أن بعض وسائل الإعلام تصف بعض القتلى بـالشهداء الأبرار ولا تأتي على الإطلاق لمجرد ذكر أسماء آخرين، رغم أن الجميع قد سقطوا في نفس المستنقع الدموي. هذا التمييز في موت الناس يعكس جوهر الأزمة السودانية عقلية تقوم على الفرز والاصطفاف، حتى في أقدس ما يملكه الإنسان وهو حياته. يتحول الشهيد إلى علامة تجارية، تُستثمر صورته لتغذية الدعاية الحربية أو السياسية. وتصبح جنازته مهرجاناً للخطابة، بينما أسرته ربما تُترك بعد أسابيع لمواجهة الجوع والعوز وحدها. والأدهى من ذلك أن هذا التصنيف يفرغ معنى الشهادة من قيمتها الإنسانية والدينية. فالشهادة في التراث الإسلامي تعني التضحية بالنفس دفاعاً عن الحق أو الوطن أو الكرامة، لكنها في واقع السودان اليوم صارت بطاقة انتماء حزبي. هل يعقل أن تكون قيمة الإنسان بعد موته رهينة بما إذا كان قد حمل بطاقة حزب معين أو انخرط في مليشيا بعينها، لم يعد الشهيد (شهيد وطن) بل صار (شهيد معسكر). تُرفع صورته داخل جغرافيا سياسية محدودة، هنا شهيد الجيش، وهناك شهيد البراؤون، وأولئك شهداء الدراعة والمشتركة، وبينهم آلاف من الجنود وضباط الصف الذين لا يذكرهم أحد. دعك من المدنيين الذين لا يذكرهم أحد فحسب، بل إن بعضهم يتعمد محو ذكر قتلى المدنيين تماماً، باعتبارهم (خسائر جانبية) أو (أضرار حرب)، رغم أنهم الضحايا الأكثر براءة في هذا الصراع.. والنتيجة النهائية أن آلاف الأرواح ذهبت سدى بلا اسم ولا ذكر، بينما يجرى تضخيم (شهداء) بعينهم، ليصيروا أيقونات في مشهد مشوه. هذه الازدواجية تكشف مأساة السودان الراهنة، بلد فقد بوصلته حتى في الموت، وصار يوزع صكوك الشهادة وفق الولاء لا وفق التضحية. إن السؤال المرير الذي يجب أن يواجهه السودانيون هو، هل نريد أن نحول شهداء الحرب إلى مجرد درجات ورتب ومقامات، مثلما قسمتنا السياسة والقبيلة والطائفة؟ أم نريد أن نستعيد إنسانيتنا ونعترف بأن كل قطرة دم سودانية أُريقت في هذه الحرب تستحق نفس القدر من الاحترام والذكر، حتى يحدث ذلك، سيظل مشهد (الشهداء بدرجة VIPقائماً)، وستظل جنازات بعضهم مهرجانات، وجنازات آخرين مجرد كفن من طرف السوق وحفرة سريعة على أطراف المقابر وينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن.
أما في ديسمبر 2018، فقد عادت “الشهادة الجامعة” مرة أخرى، حين صار عبد العظيم الكنين وغيره من شهداء الثورة أيقونات للحرية والكرامة. لم يسأل أحد عن قبيلة الشهيد، أو حزبه، أو ولائه؛ كان يكفي أنه خرج يطالب بوطن أفضل وسقط في الطريق إليه. لذلك حمل الناس صورهم في كل مدن السودان، ورددوا أسماءهم كجزء من سردية وطنية جامعة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى