السر السيد
في تعريف العنف المنظم:
يمكن تعريف العنف المنظم أو الهيكلي كما يطلق عليه في بعض الأحيان بأنه: (عملية اجتماعية وتاريخية تتورط من خلالها المنظمات الاجتماعية، ومنها الجماعات المنظمة في مواقف أو تتأثر بظروف بنيوية تعزز عن قصد أو عن غير قصد بعض التغيرات السلوكية الجوهرية المفروضة قسرًا، أو تسفر عن ضرر مادي أو عقلي أو عاطفي أو الإصابة بجروح أو الوفاة)- انظر كتاب صعود الوحشية.. سوسيولوجيا تاريخية للعنف ص 37.
في تعريف المقاومة:
في ظل القهر الشامل والمعولم الذى أفرزته الرأسمالية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، والمسنود لحد كبير بما يسمى بالمجتمع الدولي أضحت كلمة (مقاومة) ضمن القاموس اليومي في حياة الشعوب مثلها مثل كلمة (خبز)، ويعرف مهدي عامل المقاومة في مقال لأديب أبو رحمون بقوله: (أما الثقافة المقاومِة شأنها شأن الثقافة، هي عملية إبداع متوالٍ ومتجدد للحياة ذاتها، هي روح النقد والوعي العلمي النزيه المتقد، هي سعينا المشترك لتغيير واقعنا البائس لتكون الحياة جديرة بالعيش، ويكون الشعب قادرًا على السيطرة على مصيره ومواجهة البرابرة من الخارج والمستبدين الفاسدين من الداخل).
فن المسرح والمقاومة:
من المعطيات التي حازها فن المسرح منذ نشأته وإلى الآن وبامتياز حتى عند عامة الناس هي أنه فن منخرط في القضايا المجتمعية والوجودية، مساهمًا في التعليم والتنوير والترفيه، لذلك كان فعل المقاومة من معطياته الأساس، ولا غرابة فالمسرح وبما أنه فن الحوار يضحي العرض المسرحي ساحة وفضاء للحوار والتداول السلمي الحي والمباشر للاختلاف، وحاملًا للتنوع ومبشرًا به، ومفجّرًا للأسئلة التاريخية والمجتمعية.
ويعود هذا لاشتماله على كون من اللغات المتنوعة المتآزرة، إضافة الى تمتّعه بمقدرات فذة في الاستجابة للتحولات التاريخية، فنظرة إلى تاريخ العرض المسرحي وراهنه تشهد على أنه شكّل أرشيفًا غنيًا للمقاومة بمقاربته بمعرفة وجمال لأسئلة الإنسان الكبرى وجوديًا واجتماعيًا، في الموت والسلطة والقهر والحب والثورة والحرب والسلام، وكل ما يعزز ثقافة المقاومة والأمل، تمجيدًا للحياة واحتفاء بها، ومثّل جسرًا خلّاقًا للتواصل بين الثقافات والحضارات، ومسرحنا العربي والأفريقي لم يكن استثناء من هذا، فقد انخرط منذ بداياته في المقاومة كما يؤكد تاريخ المسرح في البلدان العربية والأفريقية، فقد حرّض على المقاومة مستلهمًا إرث الأُمّتَين في التاريخ والحكايات والسرديات التي تمجد الكرامة وتدافع عن الحياة الحرة، وفي ذات الوقت كان منفتحًا على التجارب الإنسانية على صعيدي المقاومة والتجارب المسرحية المقاوِمة.
أرشيف العنف المنظم في السودان:
ولأن أرشيف أفعال العنف المنظم في السودان من الضخامة بمكان، سأتوقف وبإيجاز شديد عند بعض التي يمكن عدها جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية، وأولى ما سأتوقف عنده ما عرف في تاريخ السودان الحديث (بحملة الدفتردار الانتقامية)، التي نفذها محمد خسرو الدفتردار في العام 1822، وأهلك فيها الحرث والنسل، مدشنًا وفي وقت مبكر ما يعرف الآن بجرائم الحرب، وذلك انتقامًا لمقتل صهره إسماعيل محمد علي باشا، على يد السودانيين وهم يقاومون الاحتلال التركي المصرى 1821_1885. وبعد 13 عامًا، هي عمر دولة المهدية ومع مقاومة شرسة تجسدت بلاغتها في معركة كرري 1898، التي استخدم فيها البريطانيون أسلحة محرمة في ذلك الوقت، وقتلوا آلاف الأشخاص، ثم استباحوا العاصمة الوطنية أم درمان ببشاعة تصل إلى الإبادة الجماعية، يبدأ فصل آخر للعنف وللمقاومة حتى الاستقلال في 19 ديسمبر 1955. ولكن هل توقف العنف المنظم؟ الإجابة للأسف لا. فقد تواصل طيلة الفترة الممتدة من 1955 وحتى حرب الخامس عشر من أبريل 2023 التي لا تزال مستمرة، فشهدنا سلسلة من فواجع العنف المنظم “الوطني”، المتمثل في حروب السودانيين التي أطرافها الدولة وما عرف بحركات الكفاح المسلح والمليشيات، وسلسلة من فواجع “عنف الدولة الوطنية السودانية”، ففي حروب السودانيين شهدنا حرب الجنوب التي بدأت في العام 1955 وانتهت مع اتفاقية السلام في 2005، ومتزامنًا معها شهدنا حروب النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور، ثم أخيرًا الحرب التي نعيشها الآن.. الشاهد هنا إن هذه الحروب الكثيرة وبعيدًا عن وجاهة أسبابها أو عدمها، وعن توقفها ثم عودتها مرة أخرى وعن عدد سنواتها سنجد أنها قد خلفت دمارًا كبيرًا في البنى التحتية وفي الموارد، كما خلفت ملايين القتلى والجرحى والمفقودين والنازحين واللاجئين.
كما أنها شهدت في الكثير من الأحيان جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل واتهامات بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية مما جعل بعض قادتها مطلوبين للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية.
أما في سلسلة عنف الدولة فنبدأ بذكر حادثة “عنبر جودة” التي قتلت فيها أول حكومة وطنية سودانية مجموعة من المزراعين في مشروع جودة الزراعى في ولاية النيل الأبيض، بعضهم بالرصاص وبعضهم بسبب حبسه في غرفة ضيقة لا نوافذ فيها وقد كان هذا في مارس 1956.
الحادثة الثانية كانت عندما تم تهجير النوبيين السودانيين في أقصى شمال السودان إلى منطقة البطانة في شرق السودان في يوليو 1963، ومن ثم إنشاء السد العالي حيث ابتلعت المياه 27 قرية بنخيلها وآثارها وأصبح قرابة الـ 40000 شخص دون مأوى، لتدشّن الحادثة ما يعرف الآن “بالإبادة الثقافية”. والحادثة الثالثة كانت في مارس 1970 عندما ضرب الطيران منطقة الجزيرة أبا، وذلك في سياق الصراع السياسي بين طائفة الأنصار ونظام مايو 1969-1985، الذي كان (شيوعيًا) في ذلك الوقت مخلفًا وراءه ما يقارب الألف قتيل غير الجرحى والمأسورين. الحادثة الرابعة هي “حادثة مدينة العليفون” حيث أُقيم فيها معسكر “للخدمة الوطنية الإلزامية”، بهدف تدريب الطلاب (ليتم إلحاقهم بوحدات القتال في مناطق الحروب بجنوب السودان والنيل الأزرق)، وفحوى الحادثة أن هؤلاء الطلاب طلبوا من إدارة المعسكر السماح لهم بحضور عيد الأضحى مع أسرهم ولما رفضت حاولوا الهروب فقتلت السلطات عددًا منهم بالرصاص وغرق في النهر آخرون، وكانت الحادثة في 2 أبريل 1998. الحادثة الخامسة هي حادثة فض الاعتصام أو مجزرة القيادة العامة أو مجزرة الخرطوم، وقد كانت في 3 يوليو 2019، وقتل فيها عدد كبير من المعتصمين والمعتصمات، إضافة إلى مئات المفقودين والجرحى والمغتصبين والمغتصبات.
نلاحظ أن كل هذه الحوادث المروِّعة التي تُجسِّد ببلاغة عظيمة بشاعة الحرب
وعنف الدولة السودانية بمختلف أنظمتها “الديمقراطية” و”الشمولية” لا تخرج عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومن جانب آخر نشير إلى أن المسرح السوداني قد قارب كل هذه الحوادث، ليَصنعَ ذاكرة للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة، وذاكرةً للمقاومة وذاكرةً لأسئلة الهُويّات، كما في مسرحيات “صور للتعايش والسلام 2004، عن حرب الجنوب”، و”كايليك” 2005، عن حرب دارفور”، و”تصريح لمزارع من جودة” 1970 عن حادثة عنبر جودة”، و”هجرة شاهين النوبي” 2002، عن تهجير النوبيين السودانيين”، و”الذين عبروا النهر” 2002، عن حرب الجزيرة أبا”، و”تجنيد إجبارى” 2019، عن حادثة العيلفون، و”دار آمنة.. ذاكرة الفجيعة” 2023، عن حرب 15 أبريل. كما نلاحظ أيضًا أن كل هذه المسرحيات قد استخدمت تقنيات المسرح التسجيلي والمسرح الملحمي، كما حظيت باحتفاء جماهيرى كبير.
مسرحية الذين عبروا النهر:
لا شك في أن تلك التجارب التي أشرت إليها -ومنها بالطبع نموذجنا – قد استندت على مستوى النص وعلى مستوى العرض على ما راكمته ذاكرة المقاومة السودانية وغير السودانية من ثقافة وسرديات، وعلى ما راكمه المسرح السوداني والمسرح غير السوداني من خبرات جمالية وتواصلية، مما مكّنها من التعبير عن المعاناة والألم وفي نفس الوقت التعبير عن جماليات المقاومة وضرورة الأنسنة.
المسرحية من تأليف الكاتب المسرحي السوداني عادل محمد خير وإخراج المخرج السوداني منصور على عبيد. كان عرضها الأول في العام 2002 في مهرجان أيام البقعة للمسرح، وهي من مسرحيات الفصل الواحد، وتتكون من أربعة شخصيات هي: الجندي، زوجة الجندي، الطبيب، طيف الإمام، ومجموعة الأنصار”الجوقة”.
تتناول المسرحية حدثًا من التاريخ السياسي السوداني الحديث يعد مثالًا ناصعًا لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، هو ضرب منطقة الجزيرة أبا بالطيران الحربى في 27 مارس 1970.. يصف العرض وبشعرية عالية ما حدث في حرب الجزيرة أبا من خلال ما يرويه جندي شارك في الحرب وأصبح محاصرًا بالهواجس والهلوسة، يطارده طيف الإمام، والإمام المقصود في العرض هو الإمام الهادي المهدي زعيم الأنصار “حزب الأمة” وقت الحادثة، والمعارض الشرس للنظام المايوي والمستهدف الأول من قبله.
يبدأ العرض بدخول مجموعة الأنصار وعبر أداء استعراضي جميل يرددون نشيد الأنصار الشهير:
إلى الأمام… إلى الأمام
يا شباب الإمام
هذا الإمام قد سما
زحم النجوم والسما
..إلي آخر النشيد…
هذا الاستهلال يسهم بطريقة ناعمة في إشعال الذاكرة وإقحامها في الراهن، إذ أن تاريخ النشيد يعود إلى ما قبل قيادة الإمام الهادي للأنصار، وهو بهذا يعد تمهيدًا خلاقًا لينجز العرض مقاربته في المقاومة- إذ لا مقاومة بلا ذاكرة- محاولًا، أي العرض، الإجابة على سؤاله الأساس الذي هو (من المنتصر في هذه الحرب؟ الغزاة أم الشهداء؟؟)، وهو سؤال كما نرى ينهض على أبعاد وجودية وفلسفية وسياسية بامتياز.. يجسّد العرض عبر نشيد الاستهلال حضورًا للذاكرة، التي هنا هي حضور تاريخ الأنصار في المقاومة للغزاة لتحضر معركة كرري التي استبسل فيها الأنصار وهم يواجهون آلة الغزو البريطاني في العام 1898، فتبدو الجزيرة وكأنها كرري وكرري وكأنها الجزيرة.. هذا الحضور للذاكرة، يتوسل فيه العرض وهو يسعى لإنجاز مقاربته في المقاومة، بجماليات شتى منها: تعويم هويات الشخصيات، فالإمام لا يذكر اسمه وإنما الإمام فقط ويحضر كطيف، والجندي مطلق جندي، حيث لا اسم له وكذلك الزوجة والطبيب حيث لا اسم لكليهما، والجزيرة هي مطلق جزيرة وليست الجزيرة أبا، مراهنًا هنا على إشراك مخيلة الجمهور وتأويلاتها عبر ما اختزنته من سرديات في الغزو وفي المقاومة، ومنها توظيف المخرج البديع للديكور مع ملاحظة أنه ثابت ليؤدي أكثر من مهمة، فهو منزل الزوجة والزوج وهو النهر بضفتيه وهو الشاشة التي يَستعرض من خلالها الجندى ذكريات الحرب، وكذلك توظيفه لقطع الديكور فهي أحيانًا سرر “جمع سرير” وأحيانًا مراكب لعبور النهر)، ومنها الأداء الجسدي التعبيرى للجوقة، المصحوب بالغناء والإيقاعات الشعبية ذات الجذر الصوفى.. كل هذا يتم بأسلوب شاعري وشعري تآزرت فيها لغات العرض الأخرى مع اللغة الملفوظة التي جمعت بين الشعر والسرد في أسلوب كثيف المجازات.
أما بلاغة العرض وهو يجيب على تساؤله الأساس: (من المنتصر في هذه الحرب؟؟ الغزاة أم الشهداء؟؟) فتكمن في المواجهة بين الجندى/القاتل عبر هواجسة وطيف الإمام/الضحية “الشهيد”، التي جاءت قريبة مما يعرف الآن “بالحقيقة والمصالحة)، حيث ينتهي الأمر بالجندي أن يلبس “جبة الأنصار” علامتهم الأساس في دلالة على اعترافه بالذنب وندمه واعتذاره ومن ثم تخلصه من هواجسه.
طيف الإمام: الجزيرة هي التي انتصرت أيها الجندي الصغير.. لأنها فضّلت أن تثخنها الجراح ولا يُخدش قلب الوطن، لأنها خافت عليه من الفتنة والحرب الأهلية. هل فهمت أيها الجندي الصغير؟
الجندي: فكيف أعيش أنا إذن؟ كيف احترم ذاتي بعد الآن؟ كيف أعاشر بقايا الأغبياء الذين يلوكون كبرياء هذا الوطن كعجوز تلوك بقايا كرامتها ومجدها الزائل.. كيف؟ لابد من قتلك إذن حتى أقتلَ عاري وذنبى في الجزيرة. “يدخل في هستيريا.. يرفع بندقيته في وجه الإمام”.
الجندي “صارخًا”:
ستموت أيها الإمام حتى لا تفضحنا ذكراك وذكرى الجزيرة.
جاء في سياق العرض أيضًا:
الجندى: كان يومًا مهولًا غريب الملامح.. كنا مدعّمين بالمدرعات والدبابات وحتى الطائرات الطائشة العمياء، وكنت أعتقدُ أن المعركة ستكون سريعة وكاسحة وفاصلة، وأن الإمام سيسلم نفسه ويسلم الجزيرة بعد الطلقة الأولى.. لكنه كان رجلًا جسورًا.. عنيد الكبرياء.
وجاء أيضًا:
الجندى: لكن الجزيرة أصرت ألا تموت وحين طلع الصباح رأيت بقايا جثث الأطفال مشتتة حولى.. أصابع رقيقة وأقدام صغيرة حولها حجول وعقود حول رقاب مذبوحة، وعمائم ودمى.. لحم بشري متناثر ودم.. دم في كل مكان.. دم قاهر الرائحة.. وجوه كثيرة متناثرة.. مشوهة.. محترقة، وجماجم لم تعد تعرف أصحابها.. آه من تلك الجزيرة (يبكي) التي أبت أن تموت.
وهكذا جسد العرض وبشعرية كثيفة وبإنسانية عالية بشاعة الحرب وجماليات المقاومة وإنسانيتها ومنح لأطياف الضحايا/الشهداء حضورًا ساحرًا يؤرق القتلة.
وإن كان من خاتمة لهذه المقالة فهي أن منطق العنف المنظم مع اختلاف أدواته وتواريخه واحد، وأنه ينطوى على سياسات يحدد بموجبها من يستحقون الحياة ومن لا يستحقونها، وهو منطق يفرض أن يكون للمقاومة أمميتها كما لها جمالياتها وإنسانيتها وحتمية انتصارها، وأن يكون للمسرح تدخلاته الخلّاقة وصدعه الرحيم.