المواطن الحلقة الأضعف في حربٍ بلا نهاية

تداعيات اقتصادية وسياسية تحاصر النازحين والخيار واحد «عودة محفوفة بالموت».

حسام حامد 

منذ اندلاع الحرب في السودان، ظلّ المشهد الإنساني يتأرجح بين قسوة النزوح وضغوط العودة إلى وطنٍ لم يتعافَ بعد من جراحه؛ وتبدو المقولة الشهيرة المنسوبة إلى عمرو بن العاص “مُكره أخاك لا بطل” معبّرة عن واقع عشرات الآلاف من السودانيين، الذين يعودون من بلاد المهجر والنزوح إلى وطن يرزح تحت وطأة الأزمات الأمنية والاقتصادية والصحية والسياسية؛ فالعودة ليست خياراً حُراً بقدر ما هي استجابة للظروف القاهرة التي تحاصر المواطن السوداني في الخارج كما في الداخل.

النزوح والعودة الطوعية القسريَّة

تدفقت موجات النزوح السوداني إلى دول الجوار منذ الأشهر الأولى للحرب، حيث استقبلت مصر وأوغندا وتشاد وجنوب السودان وكينيا وإثيوبيا مئات الآلاف من النازحين؛ غير أنّ صعوبة الأوضاع الاقتصادية في تلك الدول، وارتفاع أسعار الصرف، وغياب الدعم المستدام من المنظمات، كلها عوامل جعلت “العودة الطوعية” خياراً مفروضاً على الكثيرين.

في مصر مثلاً، أدّت الفجوة بين الجنيه المصري والجنيه السوداني إلى تعقيد حياة الأسر السودانية. المغتربون الذين كانوا يرسلون الدعم لأسرهم باتوا عاجزين عن مواصلة ذلك مع ارتفاع قيمة الدولار، ما دفعهم لإعادة ذويهم إلى السودان كي يصرفوا عليهم داخل البلاد بتكلفة أقل نسبياً، وفي أوغندا، شهد اللاجئون السودانيون أزمة إقامات أجبرتهم على المغادرة، بينما في كينيا أوقفت السلطات تجديد الإقامة السياحية للسودانيين بعد ستة أشهر، وفرضت غرامات تصل إلى 300 دولار على المخالفين، الأمر الذي وضع الأسر أمام مأزق قانوني واقتصادي خانق.

الداخل.. عودة إلى المجهول

في السياق، وبالعودة إلى الداخل، لا يجد المواطن السوداني أمامه سوى واقع أكثر تعقيداً؛ فالحرب التي قسمت البلاد إلى حكومتين، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، جعلت الخدمات الأساسية شبه منعدمة؛ المياه والكهرباء والمواد التموينية أصبحت شحيحة، بينما يغيب الاستقرار الاقتصادي مع تراجع مصادر الدخل وانكماش فرص العمل.

في الخرطوم وأمدرمان، تحاول الدولة الترويج لعودة الحياة الطبيعية من خلال إعادة افتتاح الأسواق، لكن هذه العودة تبدو شكليَّة أكثر من كونها حقيقية، إذ يعاني التجار من ركود واضح في السلع غير الأساسية مثل الأدوات الكهربائية، بينما يضطرون للتورط في ديون طويلة الأمد لشراء البضائع المؤجلة الدفع؛ يقول أحد التجار في سوق أمدرمان: “المشكلة ليست في غياب المشترين للمواد التموينية، بل في الديون التي سنغرق فيها لعدم وجود حركة تسمح بتحقيق أرباح تكفي لتسديد الالتزامات”.

هذا الواقع دفع كثيراً من التجار إلى تحويل نشاطهم الأساسي إلى تجارة المواد الغذائية، باعتبارها الأكثر طلباً في ظل الظروف الصعبة، حتى وإن كانت أرباحها محدودة.

الأمن الغائب والحياة المهددة

من الجليّ للعيان، لا يمكن الحديث عن الوضع الإنساني في السودان دون التوقف عند الأزمة الأمنية؛ فعلى الرغم من عودة نشاط الشرطة في معظم مناطق العاصمة، إلا أن حوادث السرقات تحت تهديد السلاح باتت ظاهرة متكررة؛ بعض هذه الحوادث تورط فيها أفراد منتمين للأجهزة الرسمية، وهو ما يزيد من مخاوف المواطنين ويعكس ضعفاً واضحاً في هيبة الدولة.

في هذا الإطار تحدثت التقارير الأمنية أيضاً عن وجود ألغام وعبوات لم تنفجر بعد في مناطق حساسة مثل غابة السنط والمقرن وسط الخرطوم؛ ورغم تخصيص السلطات رقم واتساب لتلقي بلاغات المواطنين حول الأجسام المشبوهة، إلاَّ أنّ بطء الاستجابة يضاعف المخاطر، كل ذلك يجعل العودة إلى العاصمة مقامرة بالحياة أكثر منها خطوة نحو الاستقرار.

الصحّة بين الأوبئة وشبح الكيميائيات

في السياق، وعلى الصعيد الصحي، يعيش السودان كارثة صامتة، في العاصمة، أعلنت السلطات تخوفها من تأثيرات الأسلحة الكيميائية حسبب تقارير غير رسمية، ما أدى إلى تقليص الأنشطة الرسمية وسط الخرطوم، لكن الأخطر هو تفشي أمراض مألوفة مثل الملاريا والإسهالات، وأخرى أشد خطراً كالحمى النزفية.

يقول المواطن “أحمد عمر” إن عدداً من الشباب فقدوا حياتهم بسبب أمراض اعتادوا التعايش معها في السابق، وهو ما يشير إلى تراجع خطير في مستوى الرعاية الصحية، فالمستشفيات العاملة قليلة، والأدوية باهظة الثمن، والقدرة الشرائية للمواطنين منهكة، ما يجعل المرض حكماً بالإعدام على فئات واسعة من المجتمع.

وفي بورتسودان، رغم الحراك الاقتصادي والسياسي، يواجه السكان أزمة متجددة مع الحمى النزفيّة وحمى الضنك، إلى جانب معاناة قاسية من انقطاع المياه والكهرباء وارتفاع درجات الحرارة، كبار السن على وجه الخصوص يجدون صعوبة في التكيف مع هذه الظروف، ما يدفع الكثير من الأسر إلى مغادرة المدينة نحو مناطق أخرى أقل ضغطاً.

التعليم.. ترويج أم إنقاذ؟

لم ينجُ التعليم من تداعيات الحرب، ففي حين يواصل أبناء السودانيين تعليمهم في بلدان النزوح، يعيش الداخل حالة من الشلل شبه التام؛ الجامعات اتجهت إلى التعليم عن بُعد، وهو حلّ يجمع بين محاولة إنقاذ المسار الأكاديمي وتوفير دخل للمعلمين، لكن جودة التعليم تبقى موضع تساؤل، خاصةً في ظل الانقطاعات المستمرة للاتصال بالإنترنت والكهرباء.

جامعة الخرطوم أعلنت مؤخراً عن بحث يتعلق بعلاج مرض فقدان المناعة المكتسب، خطوة اعتبرها الأطباء “في مواقع التواصل” بأنّها دعاية أكثر من كونها جهداً علمياً جاداً، ضمن محاولات الدولة لتجميل الواقع وحث المواطنين على العودة، أما امتحانات الشهادة السودانية فقد تحولت إلى معركة إجبارية، إذ يتم استدعاء الطلاب رغم الظروف الأمنية الخطيرة، مما يضاعف من معاناة الأسر ويكشف عن انعدام رؤية واضحة لمستقبل التعليم.

الاقتصاد بين الجمود والاحتكار

الاقتصاد السوداني يعيش حالة من الجمود العميق؛ فالنشاط التجاري شبه متوقف باستثناء الاستيراد المحدود للمواد الأساسية؛ ورغم ذلك، لا ترتفع قيمة الدولار أمام الجنيه السوداني بشكلٍ طبيعي، ما دفع بعض التقارير إلى الحديث عن “حصار اقتصادي خفي” يهدف إلى دفع المواطنين للعودة القسريَّة عبر اختناقهم في الخارج وفي الداخل معاً.

في الأسواق، يحتكر بعض التجار المواد الغذائية ويبيعونها بأسعار مرتفعة، بينما تشهد بقية القطاعات ركوداً كبيراً؛ تجارة الأدوات الكهربائية مثال واضح على ذلك، إذّ لا يجرؤ المواطن العادي على شراء سلعة باهظة الثمن في ظل هذه الظروف، ما يجعل السوق فاقداً للتوازن.

معادلة العودة المستحيلة

إزاء هذه الصورة القاتمة، يجد المواطن السوداني نفسه بين خيارين كلاهما مُرّ، البقاء في الخارج حيث يلاحقه الغلاء وقيود الهجرة، أو العودة إلى الداخل حيث تنتظره الأزمات الأمنية والصحيَّة والاقتصادية؛ العودة هنا ليست تعبيراً عن وطنية متقدة أو حنين إلى الأرض بقدر ما هي استجابة لقوى دفع قاهرة من اقتصاد منهك، دعم خارجي متوقف، وضغوط سياسية وإدارية.

مطار الخرطوم الذي استقبل عودة ومغادرة رئيس مجلس السيادة “عبد الفتاح البرهان” استخدم كرمز لإحياء فكرة عودة الحياة إلى طبيعتها، لكن الواقع يشي بعكس ذلك، فالمطار مفتوح، لكن الطرق إلى الاستقرار لا تزال مغلقة بأبواب الحرب، والانقسام السياسي، والخراب الاقتصادي.

 إنسان السودان في قلب العاصفة

من الجلي للعيان أنّ الوضع الإنساني في السودان ليس مجرد أزمة عابرة بل مأساة ممتدة؛ ملايين المواطنين يرزحون بين النزوح القسري والعودة القسريَّة، بين وباء يفتك بهم ورصاصة قد تصيبهم، بين مدارس مغلقة ومستقبل ضائع؛ في ظل غياب حلول سياسية جذريَّة، يصبح المواطن هو الحلقة الأضعف، يُدفع إلى خيارات لا يريدها، ويُجبر على التكيف مع واقع لم يختره.

وكما قال عمرو بن العاص: “مُكره أخاك لا بطل”، فإن السوداني العائد اليوم إلى وطنه ليس بطلاً في معركة، بل ضحية معركة لم يختر أن يخوضها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى