تجربة الفترة الانتقالية – الحراك السياسي 

محمد طاهر أحمد النور

في المقال السابق من هذه السلسلة تعرضنا إلى كيفية نشوء لجان المقاومة في سياق ثورة ديسمبر، وشكل هيكلها التنظيمي وعضويتها، في هذا المقال الثاني من السلسلة سنتطرق إلى تجربة لجان المقاومة في البناء القاعدي ومطالب حراكها السياسي ما بعد ثورة ديسمبر وخلال الفترة الانتقالية.

بتوقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس 2019 بين المكون المدني – قوى الحرية والتغيير حينها – والمجلس العسكري كان السودان قد أعلن نهاية عهد حكم حزب المؤتمر الوطني والبدء في خطوات تكوين دولة مدنية مستقلة ذات سيادة، وبدأ حينها تحدٍّ جديد لم يكن للجان المقاومة فقط بل لكل المكونات السياسية في ضرورة بلورة رؤاها لشكل الدولة المدنية وتحديد الدور المنوط بها القيام به خدمة لهذا الهدف.

واجهت اللجان تحديات حقيقية في التأقلم مع الواقع الجديد الذي فرضته الوثيقة الدستورية بين المواصلة في إكمال هياكلها التنظيمية، والسعي للضغط على الحكومة الانتقالية لإنفاذ أهداف الثورة واستمرار الصراع المحلي مع بقايا النظام البائد، كل ذلك أثقل كاهل اللجان إضافة إلى حداثة تكوينها وقلة خبرة كوادرها.

كان للمهام المذكورة أعلاه تأثير رئيسي في تحديد دور اللجان في الفترة الانتقالية وبناء على الظرف القائم اختارت كل مجموعة من اللجان أدوارًا لتأديتها في الفترة الانتقالية وكثفت حراكها في الجانب المختار، على سبيل المثال انشغلت اللجان في المناطق الفقيرة محدودة الدخل بالعمل الخدمي والصراع المباشر مع عناصر النظام البائد، حيث ظلت تلك المناطق بمثابة بؤر محصنة للمؤتمر الوطني ومناطق تحشيد للدعم الانتخابي، مستغلين قلة مستويات التعليم وضعف الحالة الاقتصادية مما يسهل من عملية شراء الدعم السياسي مقابل المال، بينما كان ارتفاع مستوى الوعي بالحقوق في مناطق أخرى دافعًا للجانها لتركيز الجهود في البناء التنظيمي وتشكيل الرؤى السياسية مما مهد لانطلاق عمليات البناء القاعدي التي مرت بعدد من المراحل كعادة أي فكرة تطرأ في الواقع السوداني.

هذا التباين في الأدوار لم يكن مخيفًا بل ظل مصدر قوة وساهم في إحراز تقدم في قضايا الثورة عبر وجود فاعلين في كل قضية، ومكن اللجان من تحديد أولويات قضاياها المحلية حتى تمكنت لاحقًا من تضمينها في عمليات صناعة المواثيق التي ارتكزت على توحيد الموقف من القضايا القومية والتركيز على إبراز مساحات للقضايا المحلية.

الموقف من حكومة الفترة الانتقالية ظل موقفًا متباينًا بين الدعم للحكومة للانتقالية مع التقويم عند الخطأ وبين رفض الحكومة والدعوة لإسقاطها، ظلت اللجان تترنح في هذين الموقفين إلى حين حدوث الانقلاب، أيضاً تجدر الإشارة إلى الدور السالب الذي لعبته التنظيمات السياسية في سعيها لإخضاع اللجان وإحكام السيطرة عليها مما ولد صراعات حقيقية كادت في أحيان عدة أن تنسف بهذه التجربة وتقضي على اللجان، ويجب الإشادة هنا بقدرة أعضاء اللجان على تجاوز هذه الصراعات في كل مرة وحتى في حال عدم تجاوزها بالكامل كان يوجد حد أدنى من الاتفاق وهو ما ضمن عدم انهيار اللجان حتى الآن.

تباينت الآراء حول قدرة اللجان على تجاوز الصراعات، في تقديري الشخصي هنا أن اللجان تجاوزت في تاريخها عددًا من الصراعات، وفشلت في تجاوز أخرى، لكن حجم هذه التحديات الكبير مقارنة مع قدرة اللجان من حيث عدد الكوادر المؤهلة والتنظيم له دور مباشر في تعزيز الانقسامات داخل اللجان .

يمكن إجمال القول إن الحراك السياسي للجان المقاومة في الفترة الانتقالية شهد انخفاضًا وتصاعدًا في الرتم عززه الانقسام بين دعم الحكومة من عدمه، ولا ننسى الإشارة لانشغال الشباب بأمورهم الحياتية من تعليم ومحاولات لتحسين الكسب الاقتصادي في فترة اتسمت بضائقة اقتصادية كبيرة وترك مهمة البناء للحكومة الانتقالية .

مع ذلك لا يمكن تناسي تصاعد النقاشات في عمليات البناء القاعدي وتجارب الحكم المحلي والخطوات التنظيمية المهمة التي اتخذتها اللجان إيجابيات للفترة الانتقالية، مع ضرورة الوقوف بصورة مباشرة على تلك التجارب من حيث التحديات والخطوات التي تم انجازها .

 بتشكيل الحكومة الانتقالية وتحول قوى الحرية والتغيير إلى حاضنة سياسية للحكومة، وشريك في الحكم مع المجلس العسكري، كان على لجان المقاومة البحث عن الاستقلالية السياسية لها وتحديد طبيعة وجودها في الفترة الانتقالية والبدء بالتعريف عن نفسها كفاعل مختلف عن الفاعلين المطروحين في الساحة، بدأت اللجان مبكرًا في الفترة الانتقالية تنظيم حراك جماهيري بمعزل عن قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين، حيث كان الاحتفاء بذكرى ثورة أكتوبر وتحركت مليونية 21 أكتوبر 2019 في عدد من مناطق العاصمة والولايات بمطالب كان أهمها استعجال القصاص لشهداء الثورة، حل المؤتمر الوطني وحل مليشياته التي كان يستعين بها للبطش بالمعارضين، ومطالب أخرى تعددت حسب كل منطقة تحركت فيها اللجان .

في الأبيض على سبيل المثال طالبت لجان المقاومة بإقالة أمين عام حكومة الولاية والمديرين العامين للوزارات، واقالة المدير التنفيذي لمحلية شيكان، بجانب المطالب القومية الأخرى. وفي 20 أكتوبر من نفس العام كان قد تحرك موكب بمشاركة أكثر من 20 لجنة مقاومة بحسب بيان لجان مقاومة أحياء شرق سنار مطالبًا بإقالة المدير التنفيذي لمحلية شرق سنار، في إشارة أخرى لتمسك اللجان بالقضايا المحلية بالتوازي مع المطالب القومية طيلة فترة الحكم الانتقالي.

نوفمبر 2019 تمت المصادقة على قرار قانون تفكيك تمكين نظام الإنقاذ الذي تضمن حل حزب المؤتمر الوطني، استجابة للضغوط التي مارستها لجان المقاومة عبر فعاليات أكتوبر وما تلتها في نفس العام، وهو ما ساعد الحكومة الانتقالية على إجازة القانون بالضغط على المجلس العسكري الإنتقالي بمجلس السيادة.

استمرت لجان المقاومة في فعالياتها الثورية وحراكها خلال الفترة الانتقالية، ومن أهم الحراكات التي شكلت ملامح الوحدة البرامجية للجان المقاومة كانت مليونية 30 يونيو 2020، حيث قدمت مجموعة من لجان المقاومة بالخرطوم والولايات مذكرة مشتركة لرئيس مجلس الوزراء.

في 26 يونيو 2020 عقدت لجان المقاومة ومنظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر مؤتمرًا صحفيًا بوكالة سونا للأنباء للدعوة لمليونية 30 يونيو، وتضمن المؤتمر عرضًا لمذكرة مطلبية مشتركة سلمت فيما بعد لرئيس مجلس الوزراء حينها الدكتور عبد الله حمدوك، تضمنت المذكرة مطالب بإنجاز السلام العادل والشامل، تحقيق العدالة الانتقالية، إعلان كافة نتائج لجان التحقيق التي تم تشكيلها بدءًا بلجنة التحقيق في مجزرة فض الاعتصام، استكمال هياكل السلطة عبر تعيين ولاة مدنيين بدلًا عن الولاة العسكريين وتكوين المجلس التشريعي الانتقالي وفق قيد زمني محدد. كما طالبت أيضاً بإعادة هيكلة وإصلاح الأجهزة النظامية مع الإقالة الفورية لوزير الداخلية ومدير عام الشرطة ومدير شرطة ولاية الخرطوم لارتباطهم بعمليات قمع التظاهرات السلمية التي أودت بحياة عدد من الثوار في تلك الفترة.

المذكرة طالبت أيضاً بإصلاحات داخل قوى الثورة ووقف التدهور الاقتصادي للبلاد على أن يقوم رئيس الوزراء وبقية شركاء الحكم باتخاذ خطوات جادة في الرد على المذكرة في الثلاثين من يونيو 2020، وذلك وفقًا للبيان المنشور على حساب لجان أحياء بحري في الفيسبوك بالرابط التالي :

https://www.facebook.com/share/qWAqPddG9Mc1ELVv/?mibextid=WC7FNe

يمكن القول إن مليونية 30يونيو 2020 مثلت علامة فارقة في الحراك السياسي للجان المقاومة، وبرغم استباقها بعدد من المواكب والفعاليات الثورية لكنها مثلت حراكاً منظماً للجان المقاومة بعدد من الولايات، وكانت تحتوي على مذكرة مطلبية واضحة الأهداف أظهرت بداية تخلق موقف سياسي مشترك بين مجموعات اللجان التي ظلت حتى تلك الفترة تعمل بشكل انفرادي، المشاركة الواسعة لعدد من الولايات والحشود الضخمة في الخرطوم وغيرها أوضحت أن للسودان فاعل سياسي جديد مؤثر على الجماهير وقادر على إلهامها مجدداً للاستمرار في الحراك.

في الخامس من يوليو 2020 صدر قرار من مجلس الوزراء بإقالة مدير عام قوات الشرطة حينها الفريق أول عادل محمد أحمد بشاير، وتعيين الفريق شرطة عز الدين الشيخ علي خلفًا له، وهو ما كان من أهم البنود التي نادت بها مظاهرات 30 يونيو، وفي ذات الشهر أعلن مجلس الوزراء تعيين ولاة مدنيين للولايات بدلاً عن الولاة العسكريين.

في 20 يوليو كانت تنسيقيات لجان المقاومة بولاية الخرطوم قد قالت في بيان لها أنها وبعد اجتماع مطول لتقييم مدى الاستجابة لمطالب 30 يونيو قررت إطلاق جداول للتصعيد الثوري الشامل من أجل تصحيح مسار الثورة، وهو ما يعني عدم رضاها عن الاستجابة لمطالب حراك 30 يونيو فتبعت ذلك مليونية 17 أغسطس التي أتت بعد عام من توقيع الوثيقة الدستورية الانتقالية تحت مسمى جرد الحساب. وهو فيما معناه تقييم عام من أداء الحكومة وشركاء الحكم.

خلاصة القول إن معظم لجان المقاومة لم تكن راضية عن اداء الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير، وحراكها دائماً انصب في الدعوة لتشكيل المجلس التشريعي وتحقيق العدالة والإنصاف لشهداء الثورة، وإصلاح قوى الثورة عبر إعادة هيكلة تحالف قوى الحرية والتغيير وتوسيع ماعونه، فيما كانت اللجان أيضاً غير راضية بشكل تام عن سياسات الحكومة الاقتصادية، وسعت في كثير من الأحيان لدفع الحكومة لانتهاج نهج أقل حدة على الشعب السوداني ويخفف ما عليه من تكاليف معيشية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى