حاتم أيوب
كأن صوت الجالس في الخراب يردد: أهكذا يُكتب قدرنا؟ نغادر بيوتنا الطينية مثقلين بالشقاء، محرومون من أبسط حقوق الترحال، محاصرين بعنف لم نختره وانقسام لا نؤمن به. السودانيون الذين جبلوا على التسامح صاروا رهائن لرصاص يتراقص في شوارعهم ولسياسات تُقسم الوطن فوق إرادتهم. في هذا المشهد يبدو الوطن كله خلية مهدمة، يدفع ثمن صراع النخب بينما يصر الشعب على التمسك بجذوة الحياة رغم كل ما يُفرض عليه من موت وشتات.
الحرب في السودان لم تعد مجرد نزاع مسلح بين جيش وقوات متمردة، بل تحولت إلى مشروع لإعادة صياغة الخرائط السياسية والاجتماعية بما يخدم مصالح قوى داخلية وخارجية. فالقتال الذي يفتك بالعاصمة والولايات لا يعكس إرادة السودانيين، بل يعكس صراعًا على البقاء بين قلة تسعى إلى تثبيت سلطتها وثروتها. والحقيقة الجلية أن غالبية الشعب لا تبحث عن الانقسام، وإنما تتوق إلى سلام يعيد لها حقها في العيش بكرامة.
الخطير في هذا الواقع أن الانقسام أصبح أداة مقصودة لإعادة إنتاج الأزمة. فبدل أن تكون الحرب دافعًا للتفاوض، صارت استثمارًا لإطالة بقاء القوى المتصارعة وتكريس نفوذها، مما يفتح الباب لتدخلات إقليمية ودولية تُعيد السودان إلى مربع الوصاية. وبينما يتحدث العالم عن مسارات سلام، يتواصل نزيف الدم في المدن والقرى، ويُترك المدنيون لمصيرهم بلا حماية.
ومع ذلك، يظل المستقبل مفتوحًا على ثلاثة مسارات: استمرار الحرب وما يرافقها من تفكك الدولة ونشوء سلطات أمر واقع متناحرة؛ أو تدخل دولي وإقليمي ضاغط يفرض تسوية هشة إن لم تُبنَ على معالجة جذور الأزمة؛ أو سيناريو ثالث ينسجم مع رغبة السودانيين، يتمثل في بروز حراك مدني واسع يعيد ترتيب الأولويات ويفرض سلامًا حقيقيًا يستند إلى إرادة الشعب لا إلى صفقات النخب.
الرهان الأكبر إذن هو على قدرة السودانيين أنفسهم في استعادة زمام المبادرة، وعدم ترك مصيرهم رهينة للبنادق أو لأجندات الخارج. فالتجارب تثبت أن الحروب مهما طالت تنتهي، لكن الثمن يكون باهظًا إن لم تصاحبها مشروع وطني جامع. السودان يقف اليوم عند مفترق تاريخي: إما أن يغرق أكثر في دوامة الانقسام، أو أن يجد في مأساته دافعًا لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة.
ولهذا فإن النداء موجه أولًا للفاعلين السياسيين: كفّوا عن الرهان على الحرب، فالشرعية تُبنى برضا الناس لا برصاص البنادق. والنداء ثانيًا للمجتمع الدولي: بياناتكم وحدها لا توقف الدم، والمطلوب ضغط جاد ودعم لمسار سياسي يُعيد الاعتبار للمدنيين. أما النداء الأكبر فهو للشعب السوداني نفسه: لا تقبلوا أن يكون الخلاف قدركم، فالوحدة والسلام هما المعركة الحقيقية، وهما الوطن الذي لا تُهزمه البنادق.
نعود