“حكومة تأسيس”.. قوى الثورة في مأزق
أفق جديد
تبدو الساحة السودانية أمام واقع سياسي جديد بعد إعلان «تحالف تأسيس» حكومته في نيالا وإصدار مراسيم بدت أقرب إلى إجراءات دولة قائمة. هذا التطور نقل المشهد من حدود النفوذ العسكري المحلي إلى محاولة بناء سلطة أمر واقع توازي سلطة بورتسودان، ما يرسّخ ثنائية حكم تتقاطع مع تجارب إقليمية شهدت ازدواجًا في مراكز القرار واختبارات قاسية لفكرة الشرعية على الأرض. وبينما تتباين القراءات حول ما إذا كان هذا التحول محطة عابرة أم مسارًا طويل النفس، يترسخ انطباع بأن إدارة المرحلة المقبلة لن تكون ممكنة بالأدوات والخطابات القديمة.
ويرى رئيس تحرير صحيفة التيار عثمان ميرغني أن «الحكومة الموازية في نيالا جرس إنذار لتداعيات استمرار الحرب»، مشيرًا إلى أنها لم تكن ضمن الأجندة السياسية عند بداية النزاع، لكنها ظهرت بعد أكثر من عام كامل، إذ بدأت الفكرة بملامح «حكومة منفى» ثم سرعان ما تطورت إلى حكومة موازية تنازع في الشرعية. ويضيف ميرغني في حديثه لـ أفق جديد: «استمرار الحرب سيطور الفكرة إلى دولة جديدة تستقطع إقليم دارفور وربما أجزاء من كردفان الكبرى». وبرغم قناعته بأن حكومة نيالا لن تجد حاليًا دعمًا دبلوماسيًا، بل إن مجلس السلم والأمن الإفريقي استبق قيامها بقرار حاسم برفضها وتبعته الأمم المتحدة ومواقف قوية من الولايات المتحدة ومصر والسعودية ودول أخرى، إلا أنه يلفت النظر إلى أن هذا الرفض قد لا يكون أبديًا، فـ«عند تحوّل الأمر إلى دولة مستقلة ستختلف تقديرات بعض الدول وقد تجد قبولاً متدرجًا».
ضربة بداية
من زاوية أخرى، يرى الصحافي السوداني المقيم في لندن مصطفى سري أن ما جرى في نيالا «لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل مراسيم دولة»، وأن الأمر بات «واقعًا جديدًا» يقتضي إعادة التفكير في كيفية التعامل معه، خصوصًا من جانب القوى المدنية. يسأل سري ما إذا كانت هذه القوى ستتعامل مع «حكومة نيالا» بذات أساليب المعارضة الرسمية التي تتبعها مع «حكومة بورتسودان»، مع الإشارة إلى وجود صلات قديمة وحديثة تربط أطرافًا داخل المعسكر المدني بمكونات في تحالف «تأسيس». على هذا الأساس، يقترح سري في حديثه لـ”أفق جديد” أن تكون «ضربة البداية» في أي بيان مدني بلغة أقل حدة، لا من باب التهادن، بل لبناء جسور حول قضايا تهم المواطن في مناطق سيطرة التحالف، مثل المساعدات الإنسانية وكفالة حقوق الإنسان بلا تمييز، مع التأكيد على أولوية وقف العدائيات تمهيدًا للتفاوض مع بورتسودان.
هذا المنطق يفتح الباب لمقاربة عملية تقوم على «الاعتراف الوظيفي» لا «الاعتراف السياسي». فالتعامل مع سلطات الأمر الواقع يصبح وسيلة لحماية المدنيين وتأمين الخدمات، من دون منح صك شرعية مفتوح. ويستند هذا الطرح إلى أن المجتمعين الإقليمي والدولي سيتعاملان مع استحقاقات الأرض، أي إن أي مفاوضات قادمة قد تُصاغ بين حكومتين فعليتين، كما حدث في تجارب ليبيا وبعض مسارات الصحراء الغربية مع المغرب، حيث أمكن فتح مسارات إنسانية وتقنية بالتوازي مع تباعد المواقف السياسية. في هذا السياق، تحافظ القوى المدنية على خطوطها الحمراء الحقوقية، لكنها تنتقل من خطاب الشجب إلى لغة شروط قابلة للقياس: وصول إنساني غير مقيد، وقف عدائيات موضعي قابل للتوسعة، حماية الحريات الأساسية، وآليات شفافة للتنفيذ والمتابعة.
تحدي اللغة ليس تفصيلاً. البيانات التقليدية التي تُصاغ على قاعدة الإدانة المطلقة أثبتت محدوديتها في حماية الناس وتقليل كلفة الحرب. المطلوب لغة تضع الإنسان في صدارة الأولويات وتُحكِم الربط بين أي تواصل وبين مكاسب ملموسة للمجتمعات المحلية: فتح ممرات آمنة، تبادل محتجزين، حماية المنشآت الصحية والتعليمية، وضمان حرية الحركة داخل مناطق النفوذ المختلفة. ينسج هذا الإطار، كما يقترح سري، مسارًا عمليًا يسمح بالمحاسبة والقياس من دون أن يُفهم الانخراط بوصفه اعترافًا سياسيًا أو تطبيعًا مع الانقسام. وهنا تلتقي ملاحظة ميرغني حول احتمالات التطور إلى «دولة جديدة» مع دعوة سري لإدارة الانقسام لا تكريسه، إذ يلتقي التحليلان على أن تجاهل الأمر أو الاكتفاء بلغة الشجب قد يفتح الباب لسيناريوهات أكثر خطورة.
وقف عدائيات
على المستوى العملياتي، تبدو الخطوة الأكثر إلحاحًا هي تثبيت وقف عدائيات قابل للتحقق في نطاقات جغرافية محددة، على أن تقترن بتفاهمات إنسانية زمنية تُجدد وفق الأداء. يتيح ذلك بناء الثقة تدريجيًا، ويخلق مساحة للتعاون التقني حول الخدمات الأساسية والاقتصاد المحلي—من المياه والكهرباء إلى سلاسل الإمداد—بما يقلل من اقتصاد الحرب ويعيد قدراً من الحياة اليومية. بالتوازي، تحتاج القوى المدنية إلى آليات رقابة مجتمعية مستقلة لرصد الانتهاكات وتقييم تنفيذ الالتزامات، ونشر خلاصات دورية تعزز الشفافية وتردم فجوة الثقة مع الجمهور.
تعقيد المرحلة الانتقالية المقبلة يفرض بدوره مراجعة سقوف التوقعات. وفق قراءة مصطفى سري، من غير الواقعي افتراض انتقال قصير بعامين أو أربعة، فالمسار المرجح أطول وأشد تعقيدًا، ويتطلب ترتيبات انتقالية متمايزة في منطقتي السيطرة تُبنى على حرية الحركة وتخفيف العوائق الإدارية والأمنية، مع الحفاظ على أفق سياسي واحد يتيح لاحقًا توحيد المؤسسات. وجوهر الفكرة أن إدارة الانقسام مرحليًا لا تعني تكريسه، بل تحويله إلى منصة ضغط إيجابي على طرفي السلطة لتقديم مكاسب متوازية للمدنيين، وللاحتكام لاحقًا إلى تسوية أوسع.
واقع جديد
في المحصلة، أفرز إعلان «حكومة تأسيس» واقعًا لا يمكن تجاوزه بالشعار، ولا يمكن التسليم له بلا ضوابط. بين هذين الحدين، تبرز فرصة للقوى المدنية كي تعيد تعريف دورها: الانتقال من معارضة خطابية إلى فاعل يفاوض على شروط حياة الناس وحقوقهم، ويُخضع أي انخراط لمؤشرات واضحة ومهل زمنية وآليات تحقق. هنا تصبح تحذيرات عثمان ميرغني من الانزلاق إلى «دولة مستقلة» وتقديرات مصطفى سري حول «الاعتراف الوظيفي» وجهين لتحليل واحد: إدارة الانقسام بما يقلل الكلفة الإنسانية ويمنع تحويل الحكومة الموازية إلى كيان مكتمل الأركان يجد اعترافًا دوليًا. بهذا المعنى، يغدو السؤال ليس هل نتعامل أم نقاطع، بل كيف نُحكم التعامل كي لا يتحول إلى اعتراف مجاني ولا يبقى في الوقت نفسه حبرًا على البيان.