حكومتان.. ولا دولة!
الزين عثمان
قبل عقد ونصف كان المبعوث “ثابو أمبيكي” يستبق خطوات الجنوب سودانيين نحو الصناديق ويخاطب أبناء بلاد النيلين قائلًا: “أيها السودانيون رجاء أعطوا التاريخ فرصة”. ويحدثنا تاريخ السودان الموروث من الحقبة الاستعمارية بحاضر “دولتان” خرجتا من درب المعالجات “الأعوج”، وورثتا المشكلات نفسها “فقر وغياب المشاريع التنموية والسياسية وعدم استقرار سياسي وحروب مع مترتباتها”.
التاسع من يوليو ميقات قيام دولة جديدة في السودان منذ العام 2011 يتراجع ويترك مكانه للثلاثين من أغسطس، لإعادة رسم مشاهد الانقسام فيما تبقى من السودان بين جوبا ونيالا. يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه في شكل ملهاة أبطالها كالعادة نخب أدمنت الفشل وأعادته على الخارطة نفسها ودون إحساس بالذنب.
على شاشات الهواتف النقالة يتابع السودانيون من منافيهم البعيدة، ومن مدنهم التي غادرتها الحياة والكهرباء وسكنتها الأوبئة، “فيديو” لحميدتي الذي قتله بعضهم في ماراثون حرب الكذبات الممتدة، وقتل مع جنوده الكثيرين في حرب الكراسي وهو يضع يده على “مصحف” يقسم على الحفاظ على السودان وعلى حياة شعبه، المفارقة وحدها تجعله يفعل ذلك أمام قاضٍ هو مولانا رمضان شميلا، يسرب البعض جزءا من تاريخ انتمائه لحزب المؤتمر الوطني المعزول بالثورة ومعها مواقفه الرافضة لوجود “الجنجويد” حين كان في “هيبان” بجنوب كردفان، مستندًا على كونه صاحب البندقية الأكبر في تحالف تأسيس يقسم محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع على القيام بأعباء كونه رئيس المجلس الرئاسي في حكومة للمفارقة أطلق عليها حكومة “السلام والوحدة”، قبل أن يشرف الرئيس نفسه على أداء أعضاء المجلس الرئاسي لقسم الولاء لتأسيس، سبقهم إلى “المصحف” دون أن يضع يده عليه عبد العزيز آدم الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان “الجناح” المتبقي من الحركة الأم التي حملت معها الجنوب تاركة خلفها الحلم بمشروع “السودان الجديد”.
بعد أن أدى حميدتي القسم رئيساً للمجلس الرئاسي كمقابل موضوعي لغريمه في الحرب وشريكه قبلها في الانقلاب البرهان رئيس مجلس السيادة، أدى كذلك محمد الحسن التعايشي القسم كرئيس لمجلس الوزراء في حكومة تأسيس قيد التأسيس. صارت هناك حكومتان تتنازعان الشرعية في سودان الحرب حقيقة لا يمكن تجاوزها أو الصعود عليها، وعلق عمر قمر الدين وزير الخارجية السابق في حكومة الثورة: “أوقفوا الحرب أولاً ثم ابحثوا عن حكومات”، وأردف: “لا شرعية لحكومة نيالا مثلما لا شرعية لحكومة بورتسودان”.
فيما ينظر البعض لخطوة تأسيس الأخيرة بأنها تأتي في سياق ترتيب المشهد للدخول في تفاوض من أجل تحقيق السلام، وأن كل ما يجري الآن هو ترتيبات دولية وإقليمية من أجل إعادة رسم خارطة السودان والقوة المتحكمة فيه خصوصاً في أعقاب لقاء البرهان والمبعوث الأمريكي في سويسرا، وبالطبع الخطوة نفسها تنطوي على مخاطر جمة حين حصر عملية السلام والمستقبل بين بندقيتين لكل منهما حكومتها الخاصة بها، وأن ما يجري هو محاولة لاستنساخ نموذج شرق وغرب ليبيا في الجغرافية السودانية، مقرونًا ذلك بحالة رفض وعدم ترحيب محلي وإقليمي بخطوة تأسيس في تشكيل سلطتها الموازية وحكومتها التي لم تجد اعتراف من أي دولة أو منظمة في الوقت الراهن.
لكن القيادي في تحالف “صمود” خالد عمر يوسف يرسم صورة الانقسام الآن بأنها مرحلة سابقة للتشظي الذي سيدفع ثمنه أهل السودان باستمرار دوامة العنف والحرب والانقسام مع التشرد والنزوح، وسيدفع ثمنه الإقليم المتداخل مع السودان.
يقول يوسف إنه وبعد انقسام 2011 ها هو السودان ينقسم مرة أخرى، انقسام مع غياب إرادة التقسيم التي حدثت في مشهد استقلال الجنوب خارجياً. بالنسبة ليوسف فإن الجهة الداخلية التي دعمت انقسام الجنوب هي ذاتها التي تنشط الآن وهي الحركة الإسلامية التي لفظ الشعب مشروعها فعادت للانتقام من الثورة وبالحرب، وتسعى من خلال توظيف الحرب للعودة للحكم مرة أخرى إن كان ذلك في كامل البلاد أو في جزء منها، وذلك من خلال تسميم البيئة بخطابات الكراهية والتقسيم، مستخدمة الانتهاكات التي تمت في الحرب لنشر اليأس شرقاً وغرباً من جدوى الوحدة وتمهيد التربة لقبول الانقسام.
لكن وبحسب خالد فإن خطورة المشهد الحالي أن انقسام الأمر الواقع الراهن ليس مستداماً، فالمعسكران اللذان يقتسمان السلطة الآن يسود بينهما الانقسام أكثر من التجانس، وبينهما تناقضات تقرب انقسامهما أكثر من تماسكهما.
بث مناصرو تأسيس فيديوهات لتجول رئيس المجلس الرئاسي ونائبه الحلو في شوارع نيالا ساخرين من الإشاعات التي تم تداولها بكثافة عن وفاة حميدتي في بداية الحرب، وفي خطابه الأول من خلال منصبه الجديد سمي “الحلو” نيالا عاصمة دولة السودان الجديد في محاولة لتطبيع المشهد الجديد والتعامل معه باعتباره حقيقة. في الوقت الذي التزمت فيه السلطات في بورتسودان الصمت التام عن التعليق على ما حدث، وظهر وزير إعلام حكومة الأمل في تظاهرة بـ “لندن” خاطب فيها خالد الإعيسر المتجمهرين من منصة كونه مواطن سوداني، ولا توجد سلطة لتملي عليه مواقفه وكأنه يرد على قرارات سابقة من الحكومة جردته من كونه الناطق الرسمي باسم الحكومة، لكن لا يبدو السؤال عن تقاطعات المواطن الوزير في حالة الإعيسر ذات جدوى في مقابل السؤال الأهم حول ملابسات صمت بورتسودان وحكومتها للأمر الواقع عن أمر الحكومة الجديدة التي تنازعها شرعية هي أصلًا لا تملكها،
في وقت اكتفى فيه السودانيون بتفعيل سلاح “السخرية” من المشهد العبثي برمته، سخرية بدأت من ظهور الطاقم الوزاري بطقم أزرق وسخرية من “الروبوت” الذي سيحدد مصير السودان، “الميت” الذي سيعيد الحياة للانقسام، ومن الذي يقسم على المصحف من أجل سيادة العلمانية، ومن “الحلو” الذي لا يزال يتجرع مر كونه الرجل الثاني المنتقل من نيابة هارون لنيابة محمد حمدان دقلو.
لكن بدا أكثر ما يؤكد على عبثية المشهد في سودان اليوم هو التعليق القائل “إنه الآن علينا أن نصرف على حكومتين بدل واحدة” الأولى في الشرق تمارس الفرجة علي مواطنيها وهم يموتون بالأوبئة والعطش والغرق وبالجوع، في الوقت الذي تبيعهم هي “الأمل” الكاذب، والثانية في الغرب يقسم وزراؤها على حماية أرواح الناس وهم يحاصرونهم على مقربة من نيالا في الفاشر، تحدثهم عن الوحدة ويموت الناس فيها على العرق لا يسمع جندها نداءات الناس “الله يديك البركة ما تكتلني”، توثق لجرائمها بذات هواتف القتلة، مع تمدد السوء لا يجد الناس ما يفعلونه سوى رفع أياديهم بالدعاء “ربنا يصرف عنا وعن بلادنا سوءهم”.