ما بين يَدَيْ أشراطِ السَّاعة والوعد المأمول

“يقف عرضحال عبد القادر الكتيابي إلى الأعتابِ الشَّريفةِ، شاهداً على حال الأمة “

في ذكرى مولد المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم

د. محمد الواثق عبد الحميد الجريفاوي 

مدخل :

لعل قصيدة “عرضحال” للشاعر السوداني الكبير عبد القادر الكتيابي، واحدة من أجمل وأرقى ما قرأت في الشعر العربي المعاصر (ربما ما كتب أيضاً)، فمن يقرأها أو يمر عليها يلحظ بوضوح أنها تعبر عنه بصورة أو بأخرى، إذ تجسد بانفرادٍ وصدق الانهيار الحضاري للأمة الإسلامية، وتُعبر عن تأملات عميقة في الأحداث الجسيمة التي تنذر بقرب نهاية التاريخ البشري، كما أخبر بها النبي محمد ﷺ.

حيث برع الشاعر السوداني عبد القادر الكتيابي في كتابتها بأسلوب مميز أطلق عليه “العرضحال”، وهو مصطلح مستعار من الدواوين العثمانية يعني عرض شكوى أو حالة إلى مقام رفيع، وهنا يتوجه الشاعر بالخطاب إلى خير البرية ﷺ، شاكياً إليه حال الأمة، ومظهراً بين يديه صورة مرعبة للواقع المعاصر الذي يتطابق إلى حد كبير مع نبوءات الصادق الأمين عن آخر الزمان.

القصيدة لا تكتفي بوصف واقع سياسي أو اجتماعي، بل تقدم تشريحاً عميقاً أخلاقياً، إيمانياً، اجتماعياً، ونبوياً لحالة الأمة، كأنها مرآة نبوية تعكس الحقيقة بكل مرارتها. يواجهنا الشاعر بحقائق مرة تكشف أننا نعيش في زمن تحقق فيه العديد من أشراط الساعة، ولا يقتصر هذا الانحطاط على أعداء الأمة الخارجيين، بل يشمل أيضاً الحكام والشعوب والمثقفين من داخل الأمة نفسها، الذين أسهموا بالسكوت أو التبرير أو الانسياق وراء أوهام باهتة.

يمكننا تقسيم القصيدة بنيوياً إلى ثلاثة مستويات رئيسة، تبدأ بمقدمة مهيبة تحيي رسول الله ﷺ وتعظم مقامه، مستدعياً نبوءاته لتكون إطاراً مرجعياً للنص. ثم ينتقل إلى عرض وقائع الواقع بشكل دقيق ومُفجع، يعرض فيه حالة الأمة من انقسامات داخلية، وتبعية عمياء، وتطبيع مع الأعداء، وفساد متبادل بين الحاكم والمحكوم، وتزييف للوعي، وبيع للقيم والمقدسات. وختاماً، ينتقل الشاعر إلى حالة رجائية خاشعة، يلجأ فيها إلى النبي ﷺ، مستغيثاً بحوضه الشريف وشفاعته، معترفاً بأن الأمل الأخير معقود به بعد أن انهارت كل الموازين الأرضية.

تقوم القصيدة على خطاب متكرر يقول: “ما أخبرتنا به يا رسول الله قد تحقق”. إذ يربط كل بيت بين نبوءة ماضية وواقع حاضر، في محاكمة جريئة للواقع في ضوء الحديث النبوي الشريف. يعالج الشاعر الخلل المزدوج الذي لا يقتصر على الحاكم فقط، بل يشمل الشعوب التي شاركت في السكوت أو التبرير أو التهافت على سراب خادع. كما ينتقد الزيف الإعلامي والسياسي الذي يصور الخضوع على أنه ضبط للنفس، ويبرر قتل الأطفال على أنه دفاع مشروع، ويحاول تزييف العار إلى فضيلة تحت مسميات التحضر والحداثة.

مع أن القصيدة ترسم صورة سوداوية للحال الراهن، فإنها تظل نبوءية في جوهرها، إذ لا تحث على اليأس بل على التذكير بأن الرجوع إلى الصدق والإخلاص لا يزال ممكناً، وأن الخلاص في نهاية المطاف مرتبط بالشفاعة والرحمة. في خاتمتها، تتجه القصيدة نحو نور الشفاعة، في مشهد من التذلل العاشق أمام مقام النبوة، حيث تُفتَح أبواب الرجاء بعد إغلاق أبواب الأرض.

ما يميز “عرضحال” أن الشاعر لا يطلق صرخة غضب فحسب، بل يقدم عرض حال واعٍ وخاشع، معبراً عن حس مسؤولية إيمانية عميقة. فهو لا يكتفي بسرد الأحداث كما يفعل الصحفيون، ولا يعالجها كالمحللين السياسيين فقط، بل يسلم الرسالة إلى النبي ﷺ، كمن يسلم مفتاح الأمة إلى صاحب الرسالة، طالباً الشفاعة لعهدٍ انتهى بكل مظاهر انكساره.

في الختام، لا تُعدّ “عرضحال” نصاً شعرياً عابراً، بل وثيقة شعرية، تاريخية، وروحية، تتجاوز زمانها ومكانها، وتعلّق في فضاء النبوة سؤالاً كبيراً: هل ضيعنا الأمانة؟ هل اقتربت الساعة؟ وهل بقي لنا إلا رجاء الشفاعة؟ هذه القصيدة تتطلب من القارئ قلباً يقظاً، ووعياً مؤمناً، وذوقاً شعرياً رفيعاً كي تُقرأ وتُفهم في مقامها العظيم.

لماذا عنوان المقال، ما بين يَدَيْ أشراطِ السَّاعة والوعد المأمول ؟

اخترت عنوان هذا المقال على اعتبار أن القصيدة قد اختصرت على مشهدين متقابلين: أشراط الساعة التي تحيط بنا بظلالها الثقيلة، والوعد المأمول الذي يُضيء في نهاية النفق.

على مدار الأبيات، يرسم الشاعر مشهداً واقعياً يعكس الخراب الروحي والاجتماعي والسياسي الذي ألمّ بالأمة الإسلامية، متتبعاً بدقة تفاصيل الانهيار الذي جاء مطابقاً لما أخبر به النبي محمد ﷺ من علامات القيامة. هذه الأشراط ليست مجرد علامات زمنية، بل هي انعكاس لانفصال الأمة عن قيمها وأهدافها، وتراجعها في مضمار الحضارة والحق والعدل.

لكن رغم هذا الحال القاتم، لا تنطفئ جذوة الرجاء في القصيدة. فالخاتمة تتحول إلى دعاء مؤثر وتضرع إلى النبي ﷺ، طالبين الشفاعة والرحمة، ومستندين إلى الوعد المأمول من الله تعالى. في هذا الانتقال من التشخيص إلى الرجاء، يتجلى قلب القصيدة وروحها، حيث لا يترك الشاعر القارئ في ظلمة اليأس، بل يمنحه منارة الأمل، واليقين بأن النصر والفرج قادمان بإذن الله، مهما طالت ظلمات الليل.

هكذا، تصبح القصيدة مرآة لواقع الأمة، وكاشفة لمآلاته، لكنها في ذات الوقت نبراس إيماني يدعو إلى الاستيقاظ، والتوبة، والتطلع إلى الفرج والنجاة عبر ثقة راسخة بوعد الله ورسوله.

في مساحة ما بين يدي أشراط الساعة والوعد المأمول، يكمن درس القصيدة: أن نكون على بينة مما نحن فيه، وأن نُعلّق قلوبنا على ما لا يخيب، مستمسكين بقول النبي ﷺ الذي هو وعد رحمة، لا تنفد . 

قراءة بين حروف القصيدة 

وفي قراءة تحليلية سأقوم بتجزئة القصيدة إلى مقاطع ، أعطيت ( من نفسي ) عنواناً لكل مقطع في محاولة تقريبية لمراد الشاعر  ولما لمسته وأحسسته في قراءاتي الشخصية للقصيدة : 

المقطع الأول: الاستهلال والمخاطبة

في المقطع الأول افتتاح متين يضع المتلقي أمام مشهد مهيب: شاعرٌ يخاطب النبي ﷺ عند أبواب الساعة، ويطلب الشفاعة والدعاء والسلام عليه وعلى آل بيته وصحبه ، ويُفتتح الشاعر قصيدته بخطاب مباشر إلى الرسول ﷺ، لكنه يضع خطابه “بين يدي أشراط الساعة”، أي في زمن نذر النهاية، ما يعطي للقصيدة طابعاً رسولياً – كاشفاً – نذيرياً 

سيدي ..يا محضَ روحِ الصدقِ 

يا خيرَ البريةْ

زادك اللهُ صلاةً في سلامٍٍ ـ في مقاماتٍ سَنيّةْ

ثمَّ آلَ البيتِ والأصحابَ ـ أحبابي ـ

و أُهديك التحيَّةْ

المقطع الثاني: تحقق النبوءات وعبثية المشهد

يحمل هذا الجزء نقداً لاذعاً للواقع السياسي الذي يحقق نبوءات الانهيار، ويعرض مشهداً عبثياً يُبكي ويُضحك في آنٍ واحد، مما يجعل القصيدة تسير بين مأساة النبؤة وكوميديا السقوط. يُقرّ الشاعر بأن ما نراه اليوم هو تحقُّقٌ حرفيٌّ لما أخبر به النبي ﷺ في أحاديثه عن آخر الزمان، مما يضفي على القصيدة بعداً نبوياً . 

ثم أما بعدُ:

 بـهذا طبقُ ما أخبرتَنا بالأمسِ بالضَّبطِ ـ

انجَلى للعينِ آياتٍ جليَّةْ : ـ

بالتفاصيلِ الدقيقاتِ وبالأسماءِ والوصفِ الذي أخبرتَنا ـ

قد جاءَ بالرُّوميِّ للأعماقِ ( أخنسُ مِن أُمَيَّةْ ) ..

كان قد أَفضَى إليهمْ ـ

وَ هْوَ مغلوبٌ على سُلطانه ِـ

فِعلاًـ كما أَخبرتَ ـ

يَبْكي ….ـ

ثمَّ لمَّا أنْ رأيناهُ ـ

ضَحِكْنا نحْنُ من شرِّ البليَّةْ!!!

المقطع الثالث: استمرار الجاهلية بعد النبوة

الشاعر يُعلن سقوط الأمة الأخلاقي والتاريخي رغم مرور 14 قرناً على الرسالة، وكأن الإسلام لم يغيّر ما بالناس. هذا التشخيص المرير يُصاغ بخطاب عتب نبوي مليء بالألم، ويثير الشاعر حالة تقريرية يائسة، تفيد الجمود والانغلاق، وكأن التاريخ لا يتحرك، بل يكرر ذاته في دوامة من التخلف والانقسام .

زادَكَ اللهُ صلاةً سَيِّدي :

ها نحنُ لازلنا كما نحنُ …

اختَلفنا ـ منذُ ( كَسْرِ البابِ ) حتَّى :

( سَحقِ بَغْدادٍ ) كما أخبرتَنا بالحرفِ ..

لازلنا بذاتِ الجاهليَّةْ …

المقطع الرابع: تشرذم الولاء والهوية

في هذا المقطع يُعرّي الشاعر  واقع الولاءات الزائفة والانتماءات المريضة: البعض ولاؤه للثروة، والبعض للسلطة أو الغرب، بينما تُترك الشعوب فريسة للذئاب. سخرية سوداء ترسم مشهد أمة ضائعة الوجهة.

زادَكَ اللهُ صلاةً سَيِّدي ـ

ثم وازْدِدنا خلافاً

قَالَتِ الأعرابُ آمنَّا بهذا ( الزيت ..)

والباقونَ ـ بالأهرام و ( العَمْ سام ) والإعلامِ

والأغنامُ ـ أدناها إلى الذئب ـ القصية …

المقطع الخامس: خداع الذات باسم “القضية”

في هذا المقطع ، الشاعر يصرخ في وجه الخطاب الرسمي والمجتمعي الذي يُسمي الهزيمة “قضية”، بينما الواقع أنها كرّة كبرى لصالح العدو، تماماً كما وصف النبي ﷺ في أحاديث آخر الزمان

كَرَّةٌ هذي علينا .. لِبَنِي يعقوبَ هذي

كَرَّةٌ كُبْرى … كما أَخبرتَ ..

لكنَّا نُلَطِّفُهَــــا … ـ

نُسَمّيها ( القَضِيَّةْ ) …!

المقطع السادس: مليار ونصف… بلا أثر

في هذا المقطع ، وبألم شديد، يُجسّد الشاعر كيف تحوّل المسلمون من أمةٍ شاهدة إلى أمة تائهة لا تعرف من هي، رغم كثرتها. والشاعر يُحمّل الضياع لفقدان الهوية الإسلامية الأصيلة.

زادَكَ اللهُ صلاةً سَيِّدِي ـ

طِبقَ ما أَخْبَرتَنا هاهِيْ تَهَاوَتْ

أُمَمُ الدُّنيا عَلينا ـ رغْمَ أنَّا الآنَ مليارٌ ونصفٌ ـ بلْ غُثَاءٌ

كَغُثَاءِ السَّيلِ نَسْعَى نحوَ جُحر ِالضَّبِّ ـ لا نَدري …

وَ هلْ يَدري الّذي ضلَّ الهُوِيَّةْ .. ؟

المقطع السابع: من المسؤول؟ سؤال بلا جواب

في هذا المقطع الصغير يُجري الشاعر محاكمة ضمير ( كبيرة )  للأمة كلها: لا يُبرّئ الحُكام، ولا يستثني الشعوب أيضاً ، الجميع متورط في مشهد الانهيار.

كلُّ ما أخْبرتَنا عنهُ رأيناهُ بهذا العَصْرِ لكنْ ..

زادَكَ اللهُ صلاةً في سلامٍ ـ

لم نَعُدْ نَدري ـ مَنِ الجاني على الثاني ؟ ـ

الرُّعاةُ أَمِ الرَّعيَّةْ ؟

المقطع الثامن: الانبطاح أمام “الحلفاء”

في هذا المقطع يفضح الشاعر الخذلان السياسي الذي حدث عقب الضغوط العالمية، ويُظهر أن ما تم كان بموافقة الحكام، وليس إكراهاً، بل خيانة علنية بمواثيق خفية، كلها تحقق ما أخبر به النبي ﷺ عن زمان “بيع الدين بالدنيا”.

إنَّهُم يا سَيِّدي ـ صَلَّى عليكَ اللهُ ـ

خَافوا ـ مُنذُ أنْ دُكَّتْ خُرَاسَانُ الّتي دُكَّتْ

بِقُنْبُلَةٍ ذكِيَّةْ

سَارَعُوا فِيهمْ ( أيِ الدُّوَلَ الصَّدِيقَةَ ) طِبقَ ما أخبرتَنا

راحُوا يُسِرُّونَ المَوَدَّاتِ الّتي صِيغَتْ مَواثيقاً خَفِيَّةْ

المقطع التاسع: الحكام وتفريط التابعين

يعقد الشاعر في هذا المقطع مقارنة صريحة بين الحكام الذين باعوا الأمة، وبين الشعوب التي اتبعتهم طوعاً أو كسلاً، مما يجعل الجميع شركاء في الجريمة الحضارية والانهيار الديني.

هُمْ كِرَامٌ سَيدي ـ 

قد سَلَّمُوهم مَنْ أَرادوا ـ ما أَرادوا ـ واسْتَزَادُوهم فَزَادوا

هَكَذا حُكَّامُنا ـ قد أَفسَدوا فِينا فَسَادوا

و اتَّبَعْناهم بِحَقِّ التَّابِعِيَّةْ

المقطع العاشر: تزييف الوعي وتطويع الإدراك

في هذا المقطع يقدم الشاعر نقد لاذع لتزييف الخطاب السياسي والإعلامي، الذي يُلبّس الاستسلام لباس “التحضّر وضبط النفس”، ويحوّل الجبن إلى قيمة تربوية، في مسخٍ كامل للوعي الإسلامي.

زادَكَ اللهُ صَلاةً

سَيِّدِي

هُمْ عَلَّمُونا كَيفَ نُغْضِي عَنْ بِنَاءِ السُّورِ

عَنْ قَتْلِ الأُطَيْفَالِ ـ دَمارِ الحَرْثِ و النَّسْلِ ـ اكْتَشَفْنَا

أَنَّهُ ( فَنٌّ ) يُسَمَّى

( فنُّ ضَبْطِ النَّفْسِ ) ـ شَرْطَاً

أنْ تَكونَ النَّفسُ في ( الضَّبْطِ ) رَضِيَّةْ

المقطع الحادي عشر: تحوُّل الأمة إلى علامات للقيامة

في هذا المقطع الثقيل والمزلزل، يسوق الشاعر اعترافاً مريراً بأننا صرنا نحن أنفسنا من علامات يوم القيامة، لا لأننا مظلومون فقط، بل لأننا نشارك في الفساد، ونبيع ما لا يُباع، ونحن نعلم

هكذا حُكَّامُنا ـ يا زادَكَ اللهُ صَلاةً ـ

نحنُ أوْ هُمْ

بلْ كِلانا ـ بعضُ أَشْرَاطٍ تَوَالَتْ ـ

ليسَ مِنْ فَرقٍ سِوَى أَنَّا عَرَفْنا ـ

طِبْقَ ما أَخْبَرتَنا ـ عَن في غَدٍ كيفَ البَقِيَّةْ

بَيْنَما هُمْ ـ زادَكَ اللهُ صَلاةً سَيّدي ـ

هُم طِبقُ ما أَخبرتَنا عنهم ـ يَبِيعُون العَلِيَّةَ بالدَّنِيَّةْ

المقطع الثاني عشر: اقتراب النهاية الكونية

في هذا المقطع يعلن الشاعر وقوفنا على العتبة الأخيرة قبل ظهور الدجال، وأن ما تبقّى من علامات الساعة الكبرى قليل ومحسوس وظاهر، ويُذكّر بأن المسرح أصبح مهيأً لتلك الوقائع المصيرية.

ما تَبَقَّى سَيّدي ـ

عنْ خَرْجَةِ الدَّجَّالِ إِلاّ إِمْرةُ المهْديِّ حِيناً

ثُمَّ عيسَى .. ـ سَيّدي مَا دُونَهُمْ

إلاّ اجْتِيَاحاتٌ ثَلاثٌ لِلْحِجَازِ و شَامِنا ثُمَّ الدِّيَارِ الفَارِسِيَّةْ

المقطع الثالث عشر: الكوارث الكونية قبل النفخ

في هذا الفصل يعترف الشاعر ويُعلن أن الأحداث قد تجاوزت البشر، وأننا على أبواب الفصل الإلهي النهائي، بعد أن خسرنا الاختبار التاريخي كأمة.

ما تَبَقَّى زادَكَ اللهُ صَلاةً سَيّدي إلاّ خُسُوفٌ

كُنتَ قد أَخْبرتَنا عَنها ـ وَ قَلبُ الشَّمسِ ـ

ثُمَّ النَّارُ ـ نارُ الطَّردِ بَعدَ الدَّابةِ الكُبرَى

قُبَيْلَ النَّفخِ ـ ثُمَّ الفَصلُ في الجَلْحاءِ والقَرناءِ حَتّى

تَأْخُذَ الثَّأرَ الضَّحِيَّةْ

المقطع الأخير: رجاء الشفاعة بعد الانهيار

في هذا المقطع يتحوّل صوت الشاعر في القصيدة من الشكوى والرثاء والتشخيص القاسي، إلى رجاء حارٍ واستغاثة مخلصة بالحبيب المصطفى ﷺ، بعد أن أُغلقت كل الأبواب، وبقي باب الشفاعة.

ثُمَّ إمَّا جَنَّةً حُسْنَى و إِمَّا ـ

حَسْبُنا اللهُ ـ لَنَا في وَعدِكَ المأْمُولِ يا

صَلَّى عليكَ اللهُ ـ آمالٌ قَويَّةْ

سَيّدي يا صاحبَ الحَوضِ اسْقِني ـ باللهِ و الأحبابَ يومَ الحَرِّ

مِنْ كاسَاتِه الغرَّاءِ رَشْفَاتٍ هَنِيَّةْ

زادَكَ اللهُ صَلاةً سَيّدي عَنْ صِدقِ ما أَخبرتَنا يَجْزِيكَ عَنَّا

بالمقامِ الطَّيِّبِ المحمُودِ و الرُّتبِ العَلِيَّةْ

خاتمة:

في ختام هذا التحليل لقصيدة “عرضحال” لعبد القادر الكتيابي، نجد أنفسنا أمام لوحة شعرية استثنائية تجمع بين الحِكمة النبوية والوجدان الإنساني، وبين الحاضر المؤلم والمستقبل المرتقب. لقد جسد الشاعر بحرفية فائقة وعاطفة صادقة، صورة الأمة الإسلامية وهي تغرق في أزماتها الذاتية، من تمزق داخلي، وخيانة، وفساد، وابتعاد عن قيم الرسالة الخالدة.

تؤكد القصيدة أن هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة طبيعية لتحقق ما أخبر به النبي ﷺ من علامات وأشراط نهاية الزمان، مما يجعلها وثيقة شعرية نبوية في آنٍ معاً، تنقل رسالة تحذيرية عميقة. وفي الوقت ذاته، تحافظ على بصيص من الأمل، إذ لا تغلق الباب أمام الرجاء والخلاص، بل تضع في خاتمتها الرجاء الكبير في شفاعة النبي ﷺ ومقامه المحمود، كملاذ أخير ونور لا يغيب.

تكشف هذه الخاتمة كيف أن القصيدة لا تكتفي بتوصيف الواقع القاسي، بل تتحول إلى دعاء خاشع واعترافٍ بالإخفاقات الإنسانية، واستجداء لرحمة الله وعونه، متصدية لدعوة اليأس بالتمسك بوعد النبوة والرحمة. إنها تذكير صادق بأن النهاية ليست مجرد موت حضاري، بل بداية لأمر جديد، سواء كان خيراً أو غير ذلك، بيد الله وحده.

إن قراءة هذه القصيدة تحثنا على التوقف أمام أنفسنا، ومراجعة مواقفنا، وتحيين أملنا بإصلاح ما يمكن إصلاحه، والرجوع إلى المبادئ التي جعلت من أمتنا أمَّةً عظيمة، مع التمسك الصادق بثقة لا تتزعزع في وعد الله ونبيه الكريم ﷺ. بهذا المعنى، تمثل “عرضحال” عبد القادر الكتيابي عملاً شعرياً رائداً، يتجاوز كونه نصاً أدبياً ليصبح مرآة لضمير الأمة ونداء للاستيقاظ الروحي والحضاري، ومُخاطبة مباشرة لقلب كل مسلم، على اختلاف أزمانه ومكاناته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى