مدنيون في المعركة.. النداء سلام
أفق جديد
بالتزامن مع ارتفاع أصوات الانقسام بين “نيالا” و”بورتسودان”، بعيدًا عن الأرض المحترقة وقريبًا منها في الوقت ذاته، وفيما تضج “الأسافير” بقصص حيث صوت الموت أعلى، وصوت العنصرية مرتفع، ولا أحد قادر على أن يعلو فوق صوت “القبيلة”، ثمة نداء آخر ينطلق.
وثمة من أرهقته حكايات “طائر الشؤم” الذي أغلق عليه منامه، فانطلق الصباح هاتفًا: “السودان، السلام، الحياة”، وهو نداء من “فرانسيس”، ابن رجل يدعى دينق مجوك.
واستجابة لنداء الدكتور فرانسيس دينق، أطلق مدنيون سودانيون، الأحد، مبادرتهم “نداء سلام السودان”، عبر مؤتمر صحفي على المنصات الأسفيرية بمشاركة واسعة من المهتمين.
وكشف أصحاب المبادرة عن المبادئ التي انطلقوا منها، مجددين دعوتهم إلى إيقاف فوري للحرب وبناء سلام عادل ومستدام على هدى العدالة والمواطنة المتساوية.
المؤتمر الصحفي، الذي عقد عبر “الزوم”، حاول المشاركون فيه رسم صورة مقربة لأوضاع بلاد تمضي نحو انهيارها بسبب الحرب، ونحو “الفرتقة” بخطى متسارعة، معتبرين أن الطريق الوحيد لمجابهة هذه المخاطر هو أن يعلو صوت المتضررين من الحرب برفضهم لها ورفضهم لنتائجها، والسعي الحثيث لتجفيف الدماء المتدفقة الآن ومنابعها مستقبلًا.
المبادرة التي انطلقت مستوحاة من نداء سابق أطلقه الدكتور فرانسيس دينق للشعب السوداني، طالب فيه بضرورة تبني تحقيق السلام كمسؤولية وطنية قبل أن يفرض من الخارج.
وفي مخاطبته المؤتمر الصحفي، ابتدأ سفير الحماية المدنية في الأمم المتحدة وأحد الفاعلين الأساسيين في عمليات صنع السلام بالسودان، فرانسيس دينق، حديثه بسؤال: “لماذا نقتل بعضنا البعض؟”. سؤال لم يكن وليد لحظة المؤتمر، بل سبق أن طرحه على نفسه ذات ليلة: لماذا يحدث ذلك في بلادنا؟ ومتى تتوقف نوافير الدماء؟ سؤال تحول صباحًا إلى مقال تم تداوله على نطاق واسع، وانتهى بالمبادرة.
قال فرانسيس مخاطبًا المؤتمر: “هذه الحرب يجب أن تتوقف الآن لتلافي آثارها الكارثية على الأفراد وعلى وحدة البلاد”. وأكمل: “إيقاف الحرب مسؤولية السودانيين أولًا، وعليهم شحذ هممهم في هذا الاتجاه، والاستفادة من رصيدهم الاجتماعي (الجودية) والنقاش مع المحاربين أنفسهم، ومعالجة مطالبهم عبر الحوار الذي يجب أن يشمل أيضًا الخارج إقليميًا ودوليًا، لكن من منطلق: نحن أصحاب مشكلتنا وحلها في الوقت نفسه. العالم لن يجلب لك الموت إن كنت ترغب في الحياة، ولن يكون أحرص على دم سوداني من شريكه في السودانوية والوطن”.
واعتبر الدكتور عبد الله النعيم، أول من تلقف مقال صديقه فرانسيس في ذلك الصباح، أن المبادرة تمثل صوت العقل المحمل بالمسؤولية في مواجهة صوت الجنون المحشو برصاصات الموت، وأنها مبادرة السودانيين فقط، بعيدًا عن الاستقطاب الحزبي أو الجهوي أو العقدي. وبيّن أن هدفها يتجاوز مجرد إيقاف صوت الرصاص إلى معالجة “سخائم النفوس”، ومجابهة خطاب الكراهية، وإعلاء قيمة قبول الآخر، وتحقيق المواطنة الكاملة والمتساوية. فهي محاولة لمجابهة “تركة الماضي الثقيل”، والإيمان بأن السلام غاية ووسيلة للحياة معًا.
وشدّد النعيم على أن المبادرة صوت كل السودانيين في سعيهم لتحقيق السلام، وأن النقاش يجب أن يتجاوز سؤال “لماذا تأخرت؟” لصالح “كيف تنجح في الحفاظ على الوطن من التشظي والتشرذم”، بعيدًا عن الجدل حول شرعية “حكومة نيالا” أو “حكومة بورتسودان”، “فلو أن الطرفين حازا على قبول الشعب لما انطلقت رصاصة الحرب في الأساس”.
وأكدت أسماء النعيم، عضو مبادرة المناصرة والناشطة في المبادرة، على استقلالية المبادرة، وعلى تمرحلها في تحقيق الأهداف عبر الحوار، وبعيدًا عن إقصاء أي مكون يعمل من أجل إيقاف الحرب. وأوضحت أنها ستظل مفتوحة للجميع للمساهمة في تسريع خطوات السلام، وإنهاء معاناة السودانيين، وتمثيل الصف المدني الموحد الرافض التنازل عن حقه في رفع صوته في المدن والقرى ومعسكرات النزوح والشتات.
وشددت على أن مستقبل البلاد لا يمكن أن يرسم بالعنف أو الصفقات الخارجية، بل يجب أن يكون متجذرًا في السلام والعدالة والمواطنة المتساوية التي تحفظ كرامة كل سوداني.
ويرى كثيرون أن صوت النداء المدني الجديد خطوة مهمة في سبيل الضغط لإنهاء معاناة السودانيين التي امتدت لأكثر من عامين، كما أنها تمثل محاولة لكسر الجمود الذي شاب العملية السياسية عقب الانقسام الذي ضرب “تقدم” بانخراط بعض أطرافها في النزاع بتحالفها مع الدعم السريع.
المبادئ المطروحة من قبل أصحاب النداء، وإعلانهم أن أبواب المبادرة مفتوحة لكل سوداني يؤمن بالحوار لإنهاء الحرب، من شأنها المساهمة في إعادة لحمة القوى المدنية للعمل كجبهة موحدة بأهداف محددة في مواجهة دعاة استمرار القتل.
لكن، في المقابل، يرى آخرون أن تحديات كثيرة ستواجه المبادرة في تحقيق غايتها، أولها انعدام الثقة بين المكونات المدنية نفسها، وسيادة التكتيك على الاستراتيجية في السياسة السودانية، فضلًا عن هيمنة لغة السلاح على لغة الحوار، وتأثر فئات واسعة من المواطنين بها وانتظارهم نهاية الحرب بالحسم العسكري. يضاف إلى ذلك تراجع زخم المبادرات الدولية لحل الأزمة السودانية بعد فشل جولات التفاوض السابقة، بل ونظرة البعض للتفاوض نفسه كخيانة لدماء من سقطوا في المعركة.
ومع ذلك، فإن أصحاب المبادرة يروون في هذه التحديات وقودًا يدفعهم لإنجاح مبادرتهم، ولإعلاء صوت ندائهم من أجل “سلام” يصنعه السودانيون المكتوون بنيران الحرب، سلام لا يعبر عن صفقات إقليمية أو دولية، بل سلام شامل يتجاوز الإقصاء، ويرفض العنف ومجد البندقية لصالح حياة كريمة للمواطنين في مدنهم وقراهم.
سلام يحافظ على وحدة السودان، ويقتص لدماء الشهداء بإيقاف النزيف تمامًا ومعالجة الأزمات من جذورها.