بقلم راميش جورا
الحرب في السودان ليست مجرد تبادل للرصاص أو سقوط للقنابل، بل هي حرب على الشعب نفسه، على أجساد النساء وأحلام الأطفال، وعلى ما تبقى من اقتصاد هش بالكاد يصمد. فمنذ اندلاع القتال الوحشي بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في أبريل/نيسان 2023، يعيش البلد مأساةً مركبة: أكبر موجة نزوح في العالم اليوم، مع أكثر من 14 مليون شخص اقتلعوا من بيوتهم، وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية والتعليمية، وانزلاق أكثر من نصف السكان إلى انعدام الأمن الغذائي.
هذا الخراب لم يقتصر على المباني والمزارع والبنى التحتية، بل امتد إلى ما هو أبعد: إلى أجساد النساء اللواتي تحوّلن إلى ساحة حرب. الاغتصاب والعنف الجنسي لم يعودا مجرد جرائم عرضية، بل صارا أداة منهجية لإذلال المجتمعات وتفكيكها، وترك ندوب نفسية واقتصادية تمتد لأجيال.
أجساد النساء في قلب الصراع
الدمار الذي يتركه القتال ذو وجهين، اجتماعي واقتصادي. فقوات الدعم السريع لا تكتفي بالقصف والغارات، بل تستخدم العنف الجنسي كسلاح يرهب الأسر ويعطل مصادر الرزق. منظمة سودانية وثقت 15 شهادة بين يناير/كانون الثاني 2022 ويوليو/تموز 2024، تبين أن 13 منها تورط فيها أفراد من قوات الدعم السريع بشكل مباشر.
الضحايا في الغالب نساء تتراوح أعمارهن بين 18 و36 عاماً، بعضهن ناشطات سياسيات، وأخريات معلمات وطالبات، إضافة إلى نساء من جماعات عرقية مستهدفة مثل المساليت. الاعتداءات تنوعت بين حوادث فردية واغتصاب جماعي استمر أياماً، وغالباً ما ارتكبت أمام الأهل أو الأطفال.
إحدى الناجيات، شابة سياسية من الخرطوم تبلغ 27 عاماً، قالت: “عندما أستعيد ما جرى، أشعر برعب عارم وأسأل نفسي: هل كنت أنا من غرق في هذا المستنقع؟”
هذه الشهادات لم تقتصر على العاصمة، بل جاءت أيضاً من مدن الجنينة وود مدني وعديلة وشرق دارفور. الانتشار الجغرافي وتطابق التفاصيل يبرزان أن ما يحدث ليس سلوكاً فردياً معزولاً، بل استراتيجية متعمدة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
نمط ممنهج من الإساءة
في مايو/أيار 2023، أجبر مسلحون يرتدون زي قوات الدعم السريع أماً وأطفالها في الجنينة على مشاهدة ابنتها البالغة 23 عاماً وهي تُغتصب داخل منزلهم. في حادثة أخرى، تعرضت معلمة عمرها 38 عاماً لاعتداء أمام شقيقها المقيد. الناجون يروون كيف جرى اختطافهم من الشوارع أو من بيوتهم، أو أثناء محاولتهم الفرار من القتال.
بعض المعتدين صادروا هواتف الضحايا لمنعهم من طلب المساعدة، وآخرون صوروا الاعتداءات ونشروها على الإنترنت لتعميق الإذلال.
النتيجة صمت ثقيل. كثير من الناجين يخشون الانتقام، وآخرون يصطدمون بجدار الوصمة الاجتماعية. امرأة من الخرطوم في الثامنة والعشرين تعرضت لاعتداء أمام طفلها قالت: “الصمت كان أشد وطأة من الألم… المجتمع لا يرحم.”
العديد من الناجيات رُفضن من أزواجهن أو آبائهن. الفتيات المراهقات والنساء غير المتزوجات وجدن أنفسهن مهددات بالنبذ أو الحرمان من الزواج. أخريات أخفين حالات الحمل الناتجة عن الاغتصاب، بينما فضّلت بعضهن الموت على العيش بعار لا يُحتمل. حالات انتحار ومحاولات انتحار تمثل انعكاساً لهذا العبء الثقيل.
الأطفال في مرمى النار
لم يسلم الأطفال من الانتهاكات. تقرير لليونيسف عام 2024 بعنوان “أزمة اغتصاب الأطفال والعنف الجنسي في السودان” كشف أن الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال ارتفعت بنسبة 16% مقارنة بعام 2023، الذي كان بدوره أعلى بنسبة 473% عن 2022.
ورغم فداحة الأرقام، فإنها لا تعكس سوى جزء من الواقع. فالخوف من الوصمة والانتقام وغياب الخدمات يمنع كثيراً من الضحايا وأسرهم من التبليغ.
الاعتداءات تتوزع على ثلاثة سياقات
اقتحام المنازل: مهاجمون مسلحون يداهمون البيوت ويعتدون على النساء أمام أسرهن.
الخطف العلني: نساء يُختطفن من الشوارع أو المواصلات، ثم يتركن في مناطق نائية بعد الاعتداء.
رحلات النزوح: نساء وفتيات يتعرضن للهجوم أثناء الفرار من القتال عبر طرق غير آمنة.
في حادثة عام 2024 بولاية الجزيرة، احتُجزت فتاة في السابعة عشرة واغتُصبت جماعياً لأربعة أيام. بعد الإفراج عنها، تاهت يومين في العراء حتى عثر عليها راعٍ وأوصلها إلى منظمة إغاثة.
انهيار اقتصادي شامل
إلى جانب الجروح الإنسانية، يتعرض الاقتصاد السوداني لواحدة من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث. تقديرات الخبير الاقتصادي خالد صديق تشير إلى أن الناتج المحلي قد يتراجع بنسبة 42% بين 2022 و2025، من 56.3 مليار دولار إلى 32.4 مليار فقط.
القطاع الصناعي فقد أكثر من نصف قيمته.
الزراعة، التي تشكل مصدر رزق الغالبية، انكمشت بنسبة 33.6%.
الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ونقل وتجارة تراجعت 40%.
الوظائف: ما يقارب 4.6 مليون وظيفة مهددة بالزوال.
الفقر: نحو 7.5 مليون شخص إضافي مرشحون للانحدار تحته، لترتفع معدلات الفقر الحضرية والريفية بشكل غير مسبوق.
صديق يحذر: “كل شهر من القتال يزيد فاتورة إعادة الإعمار. هذه التقديرات لا تشمل الاقتصاد غير الرسمي الذي يعيش عليه الملايين.”
حلقة مفرغة بين الفقر والعنف
العنف الجنسي لا يدمّر حياة الأفراد فقط، بل يضرب أيضاً قدرة الأسر على الكسب. الناجيات يفقدن صحتهن واستقلاليتهن الاقتصادية، فينزحن مع أسرهن، فيزداد الفقر والجوع. النزوح بدوره يضاعف مخاطر الاعتداء.
الأطفال الذين خرجوا من المدارس اليوم قد لا يعودون أبداً. المهنيون الذين هاجروا أو نزحوا قد لا يرجعون. هذه الخسائر البشرية تضعف قدرة السودان على النهوض لعقود قادمة.
خبراء حقوق الإنسان يرون أن الانتهاكات الحالية تعكس أنماطاً سابقة ارتكبتها قوات الدعم السريع في دارفور مطلع الألفية، حين استُهدفت نساء من جماعات عرقية معينة. هذه الجرائم تصنَّف في القانون الدولي كجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
الاقتصاديون يحذرون بدورهم من أن تدمير رأس المال البشري – المزارعين، المعلمين، العمال المهرة – سيجعل إعادة الإعمار شبه مستحيلة.
شبكات الدعم الرسمية في السودان شبه منهارة. معظم الناجين من العنف الجنسي لم يتلقوا رعاية طبية أو نفسية. بعضهم عثر على ملاذ مؤقت لدى متطوعين أو مراكز صغيرة، لكن الغالبية تُركوا لمصيرهم.
أما الأسر النازحة فتفتقد المأوى والدخل والغذاء. المساعدات الدولية تصل أحياناً، لكنها أقل بكثير من حجم الحاجة.
ما المطلوب الآن؟
يتفق الخبراء على خمس أولويات عاجلة:
إنهاء القتال فوراً لوقف نزيف الدم والاقتصاد.
حماية الفئات الأكثر هشاشة، خاصة النساء والأطفال في المخيمات والمدن المتضررة.
إعادة دعم سبل العيش من خلال الزراعة والخدمات الأساسية.
تحقيق العدالة عبر توثيق جرائم العنف الجنسي ومحاسبة مرتكبيها أمام القضاء الدولي.
التخطيط لإعادة الإعمار منذ الآن، عبر البنية التحتية وإعادة إدماج النازحين وإحياء المؤسسات.
إحدى المدافعات عن حقوق النساء في السودان تلخص: “الاغتصاب هنا ليس عشوائياً. إنه أداة منهجية لتدمير حياة الناس ومجتمعاتهم.”
والأمر ذاته ينطبق على الاقتصاد: التدمير المتعمد للزراعة والصناعة والخدمات يفرغ السودان من قدرته على النهوض. إذا استمر الصراع دون رادع، قد يتحول البلد إلى كيان بالاسم فقط، يعيش على المساعدات وتحت رحمة أمراء الحرب.
بالنسبة للملايين، الحرب ليست مجرد صراع على السلطة أو الأرض، بل معركة من أجل مستقبل السودان ذاته.
راميش جورا
صحفي ومؤلف وناشط إعلامي. مؤسس ورئيس تحرير موقع IDN-InDepthNews، بخبرة صحفية تزيد عن ستة عقود.