التاريخ يعيد نفسه: وعد بلفور وخطط تقسيم السودان

محمد عمر شمينا

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن العشرين، برزت قضايا وعد بلفور في فلسطين وخطط تقسيم السودان كأمثلة صارخة على العقلية الاستعمارية التي أدارت بها القوى الغربية مصائر شعوب بأكملها. فالمسألة في جوهرها ليست حدثًا معزولًا هنا أو هناك، وإنما سياسة ممنهجة استهدفت إعادة تشكيل الخرائط السياسية والاجتماعية بما يخدم مراكز النفوذ، ولو كان الثمن اقتلاع شعوب من أرضها أو زرع الفتن بين مكونات متعايشة منذ قرون. من هذا المنطلق يصبح من الضروري قراءة وعد بلفور وخطط تقسيم السودان في سياق واحد، باعتبارهما حلقتين في سلسلة ممتدة من المشاريع التي وظفت أدوات الوعد والقرار والخطاب السياسي لتفتيت الأوطان وإعادة صياغة الهويات.

عندما أصدر وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور وعده الشهير عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لم يكن يتحدث بصفته الفردية فحسب، وإنما كان يعبر عن توجه كامل للإمبراطورية البريطانية التي رأت في الحركة الصهيونية حليفًا استراتيجيًا، وأداة لضمان مصالحها في منطقة المشرق العربي. وعد بلفور في جوهره كان نقلًا لملكية أرض لم يملكها البريطانيون إلى حركة لم تكن لها جذور طبيعية في تلك الأرض. إنه وعد بتغيير الخريطة الديموغرافية والسياسية بقرار فوقي، متجاهلًا حق أصحاب الأرض الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ومنذ تلك اللحظة بدأ مسار طويل من الصراع والتهجير والاحتلال، لأن الوعود الاستعمارية لا تُنشئ حقًا شرعيًا وإنما تفتح أبوابًا للنزاعات المستمرة.

في المقابل، وإذا انتقلنا إلى السودان، نجد أن العقلية ذاتها قد تكررت ولكن بأدوات مختلفة. منذ بدايات الحكم الثنائي الإنجليزي المصري، عملت بريطانيا على تطبيق سياسة (المناطق المقفولة) التي عزلت الجنوب عن الشمال، ومنعت التواصل الثقافي والديني والتجاري بين المكونات السودانية. تلك السياسة لم تكن مجرد إجراء إداري، بل كانت تأسيسًا لذهنية الانقسام الداخلي وإعدادًا لمشاريع مستقبلية تقوم على تفتيت السودان. ومع اقتراب الاستقلال في منتصف القرن العشرين، لم تتردد القوى الاستعمارية في تشجيع الخطابات التي تدفع باتجاه الانفصال أو إعادة رسم الحدود، وكأن السودان لا يمكن أن يستمر ككيان واحد. ومن هنا ظهرت لاحقًا خطط متعددة لتقسيم السودان أو إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية على نحو يضمن استمرار الضعف والتبعية.

إذا تأملنا وعد بلفور وخطة تقسيم السودان معًا، نجد أن أوجه الشبه عميقة. كلاهما يقوم على تجاهل الإرادة الشعبية الحقيقية. فالفلسطينيون لم يُستشاروا في وعد بلفور، كما أن السودانيين في غالبيتهم لم يكونوا جزءًا من مشاريع تقسيم بلدهم. وفي الحالتين نجد أن الاستعمار اعتمد على قرارات مكتوبة تبدو في ظاهرها قانونية، لكنها في حقيقتها أدوات لإضفاء الشرعية على ما لا شرعية له. وعد بلفور جاء في شكل رسالة رسمية، وخطط تقسيم السودان جاءت في شكل سياسات وتقارير وخرائط رسمية، وكلاهما حاول أن يحوّل الخطاب السياسي إلى قدر محتوم.

التشابه يمتد أيضًا إلى المنطق الذي يحكم هذه القرارات. فالاستعمار لم يكن مهتمًا بإيجاد حلول عادلة أو بناء دول مستقرة، بل كان شغله الشاغل هو خدمة مصالحه الاستراتيجية. في فلسطين، كان الهدف ضمان وجود قاعدة موالية للغرب في قلب المشرق. وفي السودان، كان الهدف ضمان السيطرة على منابع النيل وممرات التجارة، ومنع قيام دولة قوية وموحدة قد تشكل تهديدًا للمصالح البريطانية والمصرية آنذاك. وبالتالي فإن التفتيت لم يكن خطأ عرضيًا، بل كان إستراتيجية متعمدة.

والأخطر من ذلك أن هذه الوعود والخطط لم تنته آثارها بانتهاء الحقبة الاستعمارية المباشرة. فكما أن وعد بلفور أطلق سلسلة من الحروب العربية الإسرائيلية والتهجير القسري للشعب الفلسطيني، فإن سياسات تقسيم السودان مهدت لانفصال الجنوب عام 2011، وتركت وراءها أزمات لا تزال تتوالد حتى اليوم في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. وهكذا نجد أن البذور التي زرعها الاستعمار لم تكن عابرة، وإنما نمت وتفرعت لتتحول إلى (جزور واصبحت أشجاراً)من النزاعات التي يصعب اقتلاعها.

ومن هنا يمكن القول إن الرابط الحقيقي بين وعد بلفور وخطط تقسيم السودان ليس فقط في التشابه التاريخي، وإنما في الدرس المستفاد الان أن القوى الاستعمارية استخدمت دائمًا أسلوب الوعود، والخطط وكذلك المشاريع كأدوات سياسية لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها. هذه الأدوات كانت تبدو في حينها وكأنها تعبير عن رؤية مستقبلية أو محاولة لحل الأزمات، لكنها في الواقع كانت صناعة لأزمات جديدة. لذلك فإن قراءة هذه الأحداث اليوم لا يجب أن تكون مجرد اجترار للماضي، بل وعيًا بأن ذات العقلية قد تعود في ثوب جديد، سواء عبر مؤتمرات دولية، أو مشاريع لإعادة رسم الخرائط باسم التنمية أو السلام.

إن ما يجمع بين التجربتين أيضًا هو الأثر النفسي العميق الذي تركته على الشعوب المعنية. الفلسطينيون عاشوا قرنًا من النضال لأن وعدًا استعماريًا صادر حقهم. والسودانيون لا يزالون يواجهون نتائج السياسات التي قسمت وطنهم وأضعفت نسيجهم الاجتماعي. هذا الأثر النفسي ربما هو أخطر من القرارات نفسها، لأنه يولّد شعورًا دائمًا بالظلم ويدفع إلى دورات متكررة من العنف.

اخيراً ، إن الربط بين وعد بلفور وخطة تقسيم السودان يكشف أن التاريخ الاستعماري لم يكن مجرد مجموعة من الأحداث المنعزلة، بل كان إستراتيجية متكاملة لإدارة المنطقة عبر التفتيت والسيطرة. وإذا كان وعد بلفور قد وضع الأساس لمأساة فلسطين، فإن خطط تقسيم السودان مهدت لتفكيك واحد من أكبر أقطار إفريقيا. وبين التجربتين نجد أن الشعوب هي التي دفعت الثمن الأكبر، بينما القوى الاستعمارية حققت أهدافها. الدرس الأهم اليوم هو أن مقاومة إعادة إنتاج هذه السياسات لا تكون فقط برفض مشاريع التقسيم الجديدة، وإنما أيضًا ببناء وعي جماعي يرى في وحدة الأرض والناس أساسًا لأي نهضة مستقبلية. فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا حين يغيب الوعي، والوعي هنا هو خط الدفاع الأول ضد وعود وخطط قديمة تُقدَّم في ثياب جديدة.

Exit mobile version