كلمة العدد : ثقوا في أنفسكم وشعبكم

لم تعد الحرب في السودان حدثاً استثنائياً يمكن احتماله، بل تحولت إلى سياق يومي خانق، يثقل حياة المواطنين ويبدد طاقاتهم. ومع مرور الوقت، أصبح واضحاً أن هذا النزاع ليس سوى صراع مصالح ضيقة، تتنازعه مجموعات ترى في السلطة غنيمة، وفي موارد البلاد فرصة للثراء، ولو على أنقاض المدن وأشلاء الأبرياء. بذلك، انكشف زيف الخطابات التي حاولت أن تُلبس الحرب ثوب “المشروع الوطني”، فإذا بها لا تتجاوز غطاء هشاً لممارسات انتهازية.

لكن المجتمعات لا تعيش في الفراغ، وهي مهما أنهكتها الأزمات، تبحث عن أفق يقودها إلى برّ الأمان. واليوم، بينما يتهاوى رصيد القوى المسلحة، يبرز الدور المنتظر للقوى المدنية الوطنية: أن تعيد تعريف المشروع الوطني، وأن تقدم بديلاً عقلانياً مقنعاً، يفتح للناس درباً جديداً.

المطلوب ليس مجرد رفع شعارات عن السلام والديمقراطية، بل صياغة مشروع متكامل يتسم بالجدية والقدرة على التنفيذ. مشروع يوازن بين متطلبات إيقاف الحرب وإعادة الإعمار العاجلة، وبين التأسيس لمرحلة انتقالية تقود إلى دولة مدنية ديمقراطية. فالمجتمع الدولي قد لا ينصت إلى الشعارات، لكنه يتعامل بجدية مع الخطط الواقعية، والشعب نفسه، أنهكته الحرب، لكنه يريد حلولًا ملموسة لا وعودًا بعيدة.

أكبر العقبات أمام القوى المدنية هي حالة الانقسام والتشرذم. لقد استثمرت الأطراف المسلحة هذا التفتت، حتى بدا المشهد المدني في صورة فسيفساء متناثرة. من هنا، فإن بناء تحالف واسع لا يقوم على طمس الخلافات، بل على إدارتها بوعي، يعد الخطوة الأولى نحو أي مشروع ناجح. إن توحيد الجهود حول القضايا المشتركة ــ وقف الحرب، إنقاذ الاقتصاد، إعادة الخدمات، وإطلاق مسار سياسي جاد – هو السبيل الوحيد لانتزاع المبادرة.

وفي هذا السياق، لا بد من مراجعة الأدوات. فالاكتفاء بالخطاب الأخلاقي، مهما كان ضرورياً، لا يفي بالغرض. المطلوب أجندة عملية: كيف يمكن وقف القتال؟ كيف ستتم إعادة الخدمات الأساسية؟ ما خطة التعامل مع أوضاع النازحين؟ وما الآليات الكفيلة بإدارة الانتقال دون الوقوع مجدداً في فخ المحاصصات؟ إن طرح مثل هذه الأسئلة الصعبة، والإجابة عنها بواقعية، هو ما يمنح القوى المدنية مصداقية أمام الداخل والخارج معاً.

التاريخ السوداني نفسه يقدم إشارات واضحة: ففي كل الحروب السودانية، كان الحراك المدني هو الذي قاد التحول، لا السلاح. واليوم، ورغم أن التحديات أعمق وأكثر تعقيداً، فإن الدرس يظل قائماً: لا مستقبل يُبنى على فوهة البندقية، وإنما على الإرادة المدنية القادرة على جمع الناس حول أفق جديد.

صحيح أن الشارع منهك، وأن الانقسامات ليست سهلة التجاوز، وأن الموارد شحيحة. لكن البديل عن المحاولة ليس إلا استمرار الانهيار. وإذا كان من الصعب أن تُحدث القوى المدنية تغييراً شاملاً دفعة واحدة، فإنها تستطيع أن تبدأ بخطوات تدريجية، تعيد الثقة وتوسع دائرة التأييد الشعبي.

الخلاصة إن اللحظة الراهنة ليست لحظة ترف فكري أو سجالات نظرية. إنها امتحان وجودي للقوى المدنية: إما أن ترتقي إلى مستوى التحدي، فتطرح مشروعاً متماسكاً يقود الناس بعيداً عن الحرب، أو تترك الساحة خالية ليستمر النزاع بلا أفق. والمسؤولية هنا ليست أخلاقية فحسب، بل سياسية وتاريخية أيضاً.

إن الطريق إلى المستقبل يبدأ بجرأة اتخاذ القرار، وصياغة مشروع جامع، وإرادة صلبة تضع مصلحة الوطن فوق الحسابات الضيقة. حينها فقط يمكن أن يقول السودانيون، ومعهم العالم: كفى.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى