بتمويل ياباني.. إعادة تدوير متطرفي السودان “بروميديشن”.. وساطة ناعمة أم تمكين مقنّع؟

أفق جديد – وحدة الرصد والتحليل

حين قررت الدوحة فجأة أن تنفض يدها من لقاء كان مقرراً في أبريل، هرولت منظمة “بروميديشن” الفرنسية باحثة عن بديل. لم يكن أمامها سوى كوالالمبور، العاصمة الماليزية، لتجمع شتات النظام البائد، وتنفخ الروح في ركام تياراته المتناحرة. ثماني لافتات من بقايا المؤتمر الوطني المحلول وُجهت إليها الدعوة، استجابت منها خمس وتخلّفت ثلاث، بحسب ما تفاخر به القيادي الإسلامي المتشدد الحاج آدم الطاهر.

لكن المفاجأة لم تكن في انعقاد اللقاء، بل في اعتراف الطاهر نفسه: كل ذلك تم بعلم ومباركة مجلس السيادة السوداني وجهاز المخابرات العامة. عند هذه النقطة يتجاوز الأمر حدود “الوساطة” ليقفز إلى دائرة الاشتباه: ما الذي تفعله منظمة أوروبية مدعومة بتمويل ياباني، وهي تعقد صفقات في الظلام مع بقايا نظام لفظه الشعب؟

على الورق، تبدو “بروميديشن” كمنظمة غير حكومية تأسست عام 2007 بجنيف، تُعرّف نفسها بأنها “وسيط محايد” يدعم السلام ويُسهِّل الحوار بين الفرقاء. في موقعها الرسمي، تسرد قائمة من الشعارات البراقة: تعزيز السلام المستدام، بناء الثقة، الوساطة النزيهة.

لكن حين نقلب الأرشيف، نكتشف أن تلك البطاقة ليست إلا واجهة مصقولة تخفي ما هو أعمق وأكثر خطورة. فالمسارات التي سلكتها المنظمة في ليبيا، اليمن، ميانمار، والسودان، ترسم جميعها خيوط متشابكة ومتداخلة مع حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

ليبيا وأفغانستان كدليل

في ليبيا بين 2016 و2019، تحركت “بروميديشن” في قلب مفاوضات سياسية كان أحد أبطالها حزب “العدالة والبناء” الإخواني. لم يكن ذلك انحيازاً عرضياً، بل حضوراً منظماً في مدن مثل مصراتة وطرابلس، حيث النفوذ الإخواني متجذر.

أما في أفغانستان، فقد أشار تقرير شبكة أبحاث التطرف العالمي (GNET) في يوليو 2022 إلى قنوات تواصل غير مباشرة فتحتها منظمات وسيطة – بينها “بروميديشن” – مع قيادات طالبانية عبر الدوحة وإسطنبول، المدينتين اللتين تُعدان معقلاً للإخوان. بل استعانت بخبراء على صلة بمراكز فكر إسلامية أوروبية لتزخيم الحوار الديني والسياسي، وكأنها تمنح “طالبان” شرعية دولية مموهة.

هذه ليست مصادفات متناثرة، بل نمط متكرر: منظمة تتبنى خطاب الحياد بينما تضع الإسلاميين في قلب طاولة التفاوض، أينما وضعت رجلها، أرسلنا عدة رسائل مستفسرين  مسؤول برنامج السودان مستر فنيست، ولكنه لم يرد على استفساراتنا، بينما تحدث إلينا، أحد موظفي المنظمة بشكل غير رسمي مؤكدًا أن الإسلاميين فاعلون في المنطقة، وأن المنظمة تسعى لإحلال السلام والوساطة بين المتنازعين، والإسلاميون طرف أصيل في تلك النزاعات. وعندما سألناه عن رحلة فينست إلى بورتسودان اكتفى بالقول “لا علم لي”، بدوره يقول قيادي سياسي رفيع إن المنظمة تلعب دورًا غير مفهوم في السودان، بل تسعى بشكل مشبوه إلى تنفيذ أجندة في غير مصلحة الشعب السوداني، وهو ما يتفق مع تحليل قدمه الخبير في العلاقات الدولية الأستاذ محمد الشابك، الذي يتتبع منذ فترة أدوار المنظمة ويرى أنها تقوم بتعضيد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا حتى وإن كان ذلك يتناقض مع رغبات شعوبها.

إعادة تدوير

ويقول السياسي الذي فضل حجب اسمه: “التواصل بين “بروميديشن” والحركة الإسلامية ليس وليد اللحظة. منذ لقاء بورتسودان في نوفمبر 2023، بدا واضحاً أن الأمر امتداد لعلاقة طويلة، نسج خيوطها قادة إسلاميون قدامى مثل أحمد عبد الرحمن محمد، الذي كان حلقة وصل بين الإسلاميين ووسطاء أوروبيين منذ الثمانينيات. واليوم، تُعاد اللعبة ذاتها لكن بأدوات أكثر نعومة: مؤتمرات حوار، ورش عمل، خطاب التسوية والمصالحة”، ويختتم السياسي حديثه لـ”أفق جديد” بنصيحة للقوى السياسية السودانية التي دفعت أثمانًا باهظة لتخليص الشعب من مخالب الإسلاميين بمقاطعة أنشطة هذه المنظمة.

التمكين بوجه جديد

هكذا يتضح أن السودان ليس استثناءً، بل مجرد حلقة في سلسلة. ما يحدث الآن ليس وساطة ناعمة، بل عملية إعادة تدوير منظمة، هدفها إعادة تمكين الإسلاميين بوجه جديد، متخففين من أثقال المؤتمر الوطني، لكن حاملين المشروع ذاته الذي قاد البلاد إلى الانقسام والدمار، المفارقة أن هذه الجهود لا تعيد الإسلاميين إلى طاولة السياسة فحسب، بل تمنحهم غطاءً دولياً جديداً، مموهاً بعبارة “السلام المستدام”. وفي الكواليس، يجري كل ذلك تحت عين الأجهزة الرسمية في الخرطوم، وبدعم مالي من طوكيو، في سيناريو يثير أكثر من علامة استفهام.

تماماً كما بررت “سنوات الجهاد” انفصال الجنوب لاحقاً، تُستخدم اليوم حالة السيولة السياسية والفوضى الأمنية لإنتاج واقع تفاوضي جديد. في هذا الواقع، يظهر الإسلاميون كطرف لا غنى عنه، حتى لو جاء ذلك على حساب قوى التغيير أو وحدة الوطن.

وطبقًا لاستقصاء “أفق جديد” فإن المشهد في قاعات  كوالالمبور أشبه بمسرح خفيّ، تتوزع فيه الأدوار بمهارة، بينما تحاول منظمة “بروميديشن” أن تقدّم نفسها على أنها الوسيط المحايد، اليد الناعمة التي تلمّ شتات النزاعات وتحيلها إلى فرص سلام. 

منذ أولى جلسات “بروميديشن” في سويسرا، كانت الريبة حاضرة. المتحدث الرسمي باسم تحالف “تأسيس” د. علاء الدين نقد لا يتردّد في وصف المنظمة بأنها “ليست محايدة ولا بريئة”، إذ يذكّر بأن الاجتماعات التي رعتها بالشراكة مع الخارجية المصرية – رغم أن القاهرة صنفت الإخوان كمنظمة إرهابية – فتحت الباب عمليًا لمشاركة الإسلاميين تحت غطاء “الجبهة المدنية” و”المائدة المستديرة”. يتوقف نقد في حديثه لـ”افق جديد” عند جولة جنيف الأخيرة: حين غاب الجيش، وحضر الدعم السريع، وتسلّل الأمريكيون إلى القاهرة للقاء ما يسمى بـ”حكومة بورتسودان”، ليمنحوها شرعية لا تستحق.

“أليس من الطبيعي”، يتساءل نقد، “أن ترعى نفس المنظمة لقاءً لرموز النظام البائد، ليطلّ علينا نافع وأمثاله من المجرمين الذين أشعلوا الحرب وشرّدوا السودانيين؟”.

عملية إنقاذ

في قراءة نقد، ما يجري ليس سوى محاولة فاضحة لإعادة تجميع صفوف الإسلاميين بعد هزيمتهم العسكرية وخسارتهم السياسية أمام “حكومة السلام والوحدة”، التي بدأت تكتسب شرعية محلية وإقليمية. يرى أن “بروميديشن” تريد إنقاذ ما تبقى من مشروع الإسلاميين، محاولةً نفخ الروح في جسدهم البالي. ويذهب أبعد من ذلك حين يربط المنظمة بتاريخها: “منذ أيام النظام البائد، كانت علاقتها بهم أوضح من أن تُخفى”. لهذا فإن أي رعاية منها لا تُفسَّر إلا كإعادة تدوير للأزمة، وإحياء لمنظمة لفظها الشعب.

لكن على الجانب الآخر من المشهد، يقف المحامي والسياسي معز حضرة، مشيرًا إلى التناقض الأخلاقي الفاضح في مواقف الإسلاميين من “بروميديشن”. ففي البدء هاجموها بشراسة، معتبرينها أداة “إمبريالية” ضد الإسلام، لمجرد أنها استمعت لقوى سياسية أخرى. لكن ما إن دعتهم المنظمة هم وحدهم، حتى هرعوا إلى أحضانها. “هذا التناقض الأول”، يقول حضرة،  لـ”أفق جديد”: “رفضوا المنظمة حين كانت تسعى لوقف الحرب، ثم وافقوا عليها عندما لبّت شرطهم أن يجلسوا وحدهم”.

ويضيف حضرة أن البيان الذي صدر عقب اجتماع الإسلاميين لا يعبّر عن “بروميديشن” بل عن الإسلامويين أنفسهم: “لقد أعادوا إنتاج سردية الحرب نفسها، متجاهلين تقارير لجان التحقيق الدولية التي اتهمت كل الأطراف – الجيش والدعم السريع والميليشيات الأخرى – بجرائم حرب. لكنهم قدّموا أنفسهم كضحايا، مع أنهم كانوا أول من بشّر بالحرب وفتح أبوابها”.

وبرأيه، إن لم تُصدر “بروميديشن” بيانًا واضحًا ينفي تبنّي ذلك الخطاب، فهي عمليًا تصبح متواطئة في دعم الحرب واستمرارها. ويذكّر حضرة أن مثل هذه المنظمات، حتى لو رفعت شعارات السلام، فإنها ليست بعيدة عن مراكز المعلومات والمخابرات الغربية، وأن دورها يتراوح بين جمع المعطيات وتمرير الأجندات إلى صناع القرار.

نشاط مشبوه

غير أن الصورة تزداد قتامة حين نصل إلى إفادة الخبير في العلاقات الدولية محمد الشابك، الذي يضع “بروميديشن” مباشرة في دائرة الأجهزة الاستخباراتية: “هذه المنظمة تتبع للمخابرات الفرنسية، وقد سُجّلت في بورتسودان بسهولة بفضل رعاية أركو مناوي في مفوضية العون الإنساني”. ويسرد الشابك ثلاث خطوات قامت بها فور تسجيلها أولها:

ورشة للحركات المسلحة والأجهزة الأمنية داخل مفوضية العون الإنساني.

وثانيها

رحلة إلى سويسرا وفرنسا لوفود من الشرطة والأمن بمشاركة سلوى آدم بنية.

إلى جانب دورة في صناعة السلام لمجموعة من السياسيين ذوي الأدوار المشبوهة، بينهم السياسي المثير للجدل مبارك أردول وآخرون.

وحين تُربط هذه الأنشطة، يقول الشابك، يصبح من المستحيل فصلها عن الدور الفرنسي الذي كان منحازًا لجبريل ومناوي في الفترة الانتقالية، أو عن السفيرة الفرنسية التي لعبت أدوارًا سلبية آنذاك. لذلك فإن اجتماع الإسلاميين في ماليزيا، برعاية “بروميديشن”، ليس إلا “عملية نفخ الروح في جسدهم وتطبيعهم مع المجتمع الدولي”. ويقترح الشابك إستراتيجية مضادة: “خطاب شديد اللهجة للمنظمة، لقاءات مباشرة مع باريس وجنيف، والتحرك فورًا نحو تصنيف الإسلاميين جماعة إرهابية قبل أن ينجحوا في العودة متخفّفين من عباءة المؤتمر الوطني”.

هكذا يتقاطع نقد مع حضرة والشابك، رغم اختلاف زواياهم. الأول يراها غطاءً مباشراً لإعادة تمكين الإسلاميين، الثاني يحذر من خطورة صمتها أمام خطاب الحرب، والثالث يكشف صلاتها الاستخباراتية ويدعو لمواجهتها بصرامة.

الخيط الخفي

تُعرِّف “بروميديشن” نفسها بأنها مُيسّر محايد يسعى لتعزيز السلام، لكن ما يرصده السياسيون والخبراء السودانيون يكشف عن خيط خفي يمر عبر كل مشاهد الأزمة: إعادة تدوير الإسلاميين، وإعادة إدماجهم في معادلة سياسية تحاول القوى الدولية رسمها لسودان يتجزأ ويُعاد ترتيبه من الخارج.

في هذا المسرح الكبير، تُقدَّم الوساطة الناعمة كقناع، بينما تتوالى خلفه أدوار أكثر صلابة: جمع الإسلاميين، منحهم المنابر، وتقديمهم للعالم كقوة سياسية شرعية لا يمكن تجاوزها.

هكذا يصبح السؤال الحقيقي: هل نحن أمام منظمة سلام؟ أم أمام “مُخرج درامي” يتقن إعادة صياغة الأزمة، بحيث يعود الجلادون متخفّين في ثوب الضحايا؟

 

Exit mobile version