“ترسين” انزلاق يطمر أخلاق سياسيين
الزين عثمان
الكارثة التي وقعت في “ترسين” بجبل مرة لم تكن مجرد انزلاق أرضي طمر البشر والحجر، بل كانت لحظة كاشفة عن هشاشة الموقف الإنساني في السودان، حين يتحوّل موت الناس إلى مادة للجدل، وتستخدم جثث الضحايا كورقة في صراع سياسي لا يعبأ بحياتهم ولا بكرامتهم، فتضيع الحقيقة بين بيانات متضاربة، وتتقدّم الأجندات على آلام الأهالي الذين يواصلون البحث عن أحبّتهم تحت الركام، بينما ينشغل المتصارعون بحساب المكاسب والخسائر في ميزان السياسة.
وفي بلاد تتنازع شرعيتها حكومتان ولا دولة، تنشق الأرض لتبتلع السودانيين في قرية “ترسين” بجبل مرة، هناك حتى الناجي لم ينج.
منطقة “ترسين” تقع في وسط دارفور، وكانت مسرح الكارثة الجديدة في بلاد تتنقل بين كوارثها ببساطة مثيرة للدهشة، لكنها أقل إثارة للدهشة فيما يتعلق بردود الأفعال على الحدث نفسه.
قريبًا من جبل مرة، أحد أجمل المناطق في السودان، سودانيون جعلهم حظهم العابث أرقامًا جديدة في دفتر “الكوارث” السودانية التي لا تنتهي. “أرقام” في مفارقة يتم الاختلاف حولها بين المتنازعين على جثة بلد كامل، ممن يحولون أرقام الناس إلى مجرد حسابات في رصيد المواقف السياسية، دون أن يجرؤ أي من “المتنطعين” بكونه ممثلًا للشعب السوداني على إعادة تعريف السياسة بأنها تقديم خدمة للناس، وفي حدها الأدنى هي “العمل من أجل تفادي الشعوب النتائج الكارثية”.
في بلاد أرخص ما فيها أرواح أهلها، يموتون في الحرب وتفتك بهم الحميات والكوليرا، ويموتون عطشًا في الصحارى، ويغرقون بفعل السيول. ويستيقظون على فجيعة ما حدث في “ترسين”، الفجيعة التي تتجاوز كون الانزلاق الأرضي الذي حدث في الجبل طمر أرواح الناس وممتلكاتهم وكل شيء، إلى وجعة أخرى تتعلق بالنظر للضحايا أنفسهم، وبالطبع توظيف دمائهم وجثثهم قبل سترها بما يليق بالنفس البشرية، لتحقيق مكاسب أو تصفية حسابات سياسية بين فرقاء المشهد المحتقن.
بدأت الحكاية بالانزلاق الأرضي، وهو حدث سبق أن وقع في منطقة “تربا” في العام 2018 مؤديًا بحياة حوالي 50 شخصًا.
ووفق ما نقلت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، التي تبسط سيطرتها على المنطقة، قالت في بيان منشور تم تداوله بكثافة: “طمر انزلاق أرضي بسبب الأمطار التي هطلت في المنطقة كامل قرية “ترسين”، متسببًا في وفاة جميع سكانها الذين يفوق عددهم الألف، ولم ينج غير شخص واحد”.
وبحسب بيان الحركة، فإن الكارثة وقعت يوم الأحد حين تسببت الأمطار الغزيرة في انهيار جبل ضخم طمر الناس وبيوتهم وممتلكاتهم، وأن الأزمة لم تنتهِ هنا، فالانزلاق ما يزال يهدد ما تبقى من سكان المنطقة الذين اندفعوا إلى مكان الكارثة يبحثون وسط الركام عن ناجٍ أو جثة لدفنها بما يليق.
وطالب عبد الواحد نور العالم والمنظمات بالتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لكن بيان الحركة وتصريحات منسوبيها سرعان ما ووجهت بحملة “تشكيك” واتهامات بتضخيم الأرقام لتحقيق أجندة سياسية، وعلى رأسها الاعتراف بحكومة “تأسيس” المعلنة بنيالا، وذلك على خلفية الاستعداد للتعامل معها في مواجهة الكارثة الإنسانية. وقد عزز تلك الفرضية التصريح المنسوب لمحمد الناير، الناطق باسم الحركة، حين قال: “إن تعاطيهم مع سلطتي نيالا وبورتسودان سيخضع لمعايير الحركة”، وهو ما يعني اعترافًا ضمنيًا بالسلطة الجديدة وإعلان الاستعداد للتعامل معها.
مصادر ميدانية كشفت عن تضخيم في الأرقام المعلنة، مؤكدة أن “ترسين” منطقة صغيرة مشهورة بزراعة الموالح، ولا يصل حجم سكانها لهذا الرقم.
وطالب البعض بتصحيح الخبر الأول فيما يتعلق بأعداد الضحايا، موضحة أن عدد الموتى لا يتجاوز شخصين، وهو ما أكدته وزارة الصحة في حكومة بورتسودان، التي أشارت إلى أن الكارثة طمرت 500 شجرة. المفارقة أن بيان تعزية وتضامن صدر من المجلس السيادي في بورتسودان قدّر الضحايا بالمئات.
ماراثون الأرقام الخاص بالكارثة يلتقي مع ماراثون حراك المواطنين في جبل مرة، وهم يستخدمون أدوات بدائية في عمليات البحث عن ناجين أو جثث. وقدرت حركة عبد الواحد، سلطة الأمر الواقع في المنطقة، عدد الضحايا بحوالي 1573، بينما حدد تقرير للأمم المتحدة العدد ما بين 300 و1000، وأكدت وزارة الصحة أنهم شخصان فقط، فيما تحدثت تقارير محلية عن انتشال 373 جثة.
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بالسودان “أوتشا” إن الوكالات قررت إجراء تقييم مشترك للكارثة.
وبحسب المكتب فإن تقارير الحركة كارثية، لكن عدد الوفيات لا يزال غير مؤكد. وأضاف أن من الصعب تقييم الحجم الكامل للكارثة وتأكيد عدد الوفيات بدقة نظرا لصعوبة الوصول للمنطقة، إذ يحتاج الوصول إلى استخدام “الدواب”، وهي الوسيلة الوحيدة هناك. وقد نشرت بالفعل صور لمنظمات وصلت عبر الدواب.
في الوقت الذي دبج فيه كثيرون بيانات التعازي والتضامن مع أهالي المنطقة معلنين استعدادهم لتقديم المساعدة والإغاثة، بادر مجلس السيادة السوداني محددًا الضحايا بالمئات، وتبعه رئيس الوزراء كامل إدريس مطالبًا المنظمات بالتدخل، متعهدًا بتقديم حكومته كل ما تستطيع. كما تعهد رئيس وزراء حكومة “تأسيس” المُعلنة في نيالا، التعايشي، بإرسال قافلة إغاثة للمتضررين بالتنسيق مع حركة عبد الواحد.
ما جرى في “ترسين” يضعك أمام حقيقة قيمة الإنسان في السودان: يموت بلا سبب، دون أن ينتهي موته بالدفن، بل يتحول إلى سلعة في أسواق المواقف السياسية. فالتضخيم في الأرقام غرضه الحصول على دعم من المنظمات الدولية، ما يعني أن ضحايا “ترسين” زادوا أو قلوا، هم في النهاية رصيد سياسي للحركة ورئيسها.
وتتحول دماء السودانيين المتدفقة إلى مجرد رصيد لجلب الدعم الخارجي، أمر يمكن قراءته من خلال تتبع سيل بيانات المواساة المختومة بطلب الدعم العاجل، كما برز في مناشدة كامل إدريس وقبله مناشدة عبد الواحد وأركو مناوي.
يتحول دم السودانيين في كل مكان إلى حبر للكتابة؛ كتابة يستهدف أصحابها من خلالها شرعية عجزوا عن تحصيلها عبر تقديم الخدمات للناس وهم أحياء. التداول الكثيف للخبر دفع جهات سياسية وحزبية لإصدار بيانات مفادها “نحن هنا”.
لكن البيان الأكثر توقفًا عنده كان الصادر عن رئيس وزراء حكومة “تأسيس” غير المعترف بها، الذي أعلن استعداده لتسيير قافلة إغاثة عقب التنسيق مع حركة عبد الواحد لإنقاذ الأرواح ومجابهة الكارثة. المفارقة أن جيش “تأسيس” الذي سيحرس القافلة في طريقها لجبل مرة هو ذاته الذي يقتل ويحاصر أهل الفاشر ويرمي عليهم مدافع الموت.
الأمم المتحدة في بيانها حددت عدد الضحايا ما بين 300 و1000. أما واشنطن بوست فقالت إنهم حوالي 1000 شخص، بينما قدرتهم حركة عبد الواحد بأكثر من ألف.
ليعود الجدل مجددًا بعد البيانات التي قللت العدد إلى شخصين فقط، بينما قالت منظمة أطباء بلا حدود إن المنطقة لا يمكن الوصول إليها ولا توجد بها اتصالات.
بعد عشرة أيام على الكارثة، لا يزال أهالي المنطقة يجففون دموعهم وعرقهم، وبذات الآليات التقليدية يبحثون عن جثث يعيدون دفنها.
وفي الوقت نفسه يبحثون عن التزامات الدعم الذي لم يصل: لا من رئيس الوزراء، ولا من مجلس السيادة، ولا حتى قافلة التعايشي.
الأرواح التي انطفأت في “ترسين” انطفأت معها شعلة الأمل في وجود سلطة همها الناس، رضاهم، والحفاظ على حياتهم وتحس بآلامهم، لكن السلطات المتعددة بعقل واحد لا ترى في الضحايا سوى أرقام.
“ترسين” لا تبدو مجرد كارثة طبيعية يختلف الناس حول أعداد ضحاياها، بل مرآة توضح خراب السياسة في السودان؛ بلد يتعدد فيه الحكام لكن بلا حكومات حقيقية، ولا مؤسسات، ولا مسؤولية. سلطات شكلية تحسب مكاسبها بعدد من ماتوا، لا بعدد من وفرت لهم الحياة.
سينتهي الجدل حول كارثة “ترسين” حين تقع كارثة جديدة، في بلد ينزلق كل يوم في حفرة انهياره أكثر. وسينتهي جدل اختلافهم حول أرقام ضحايا الانزلاق الجبلي حين يعلمون حقيقة الأرقام الخاصة بضحايا بلد ينزلق في حربه كل يوم أكثر.