الموت عند قدمي الجبل!

حسام حامد

“تحت الجبل، حيث تنام الأرض بسلامٍ هش، يكمن مصير قرية كاملة؛ ناموا ليلتهم الأخيرة تحت المطر، ولم يستفيقوا بعدها”.

في غرب السودان، بين تعرجات التضاريس وصمت الجبال، كانت “ترسين”؛ قرية صغيرة، لا يعرفها أحد خارج خرائط جبل مرة، لا مطارات قريبة تقدم العون، ولا مشافٍ تنقذ الحياة، ولا محطات وقود قريبة لتسعف الجرحى، لكنها كانت عامرة بالبشر، بالحياة، بضحكات الأطفال، وبرتقالٍ من أشهى ما تنتجه أرض دارفور، والأهم البُعد عن مناطق النزاع المُسلَّح طلباً لفسحة للعيش ومساحة آمنة للزراعة والرعي وتبادل الأمهات لحكايات القهرِ والأُنس، وفحولة رجال ماتوا وأجساد أنهكها التعب.

في 31 أغسطس 2025، ارتجّت الأرض ولم تصرخ؛ هبط المطر كثيفاً، لا يستأذن أحداً، ولمّا اكتملت ساعته، كان كل شيء قد انتهى؛ أكثر من ألف شخص، رجال ونساء وأطفال، طُمِروا تحت التراب؛ لم يبقَ منهم سوى جسدٍ واحد حيّ، وربما قلبٍ مكلوم يبحث عن نجاةٍ لم تعُد ممكنة وذكرياتٍ باتت تحت الأنقاض.

القرى التي تموت واقفة

 إزاء ذلك، ليست “ترسين” استثناءً؛ في السودان، تمتد قرى كثيرة تحت سفوح الجبال، من شمال البلاد حتى شرقها وغربها؛ في قرى الدبة، وطريق المزروب، كسلا، القدمبليَّة وقرى المِقرِح بالفاو، بورتسودان، قرى النهود بكردفان وجبل مرة، وغيرها من الأماكن، يعيش الناس حيث الجبل يظللهم، وحيث الخطر لا يبدو خطراً، بل مألوفاً، كالمطر في الخريف، أو كصوت المواشي في الفجر.

لكن الجبل لا يعِد أحداً بالأمان؛ الجبال ليست حارسة دائمة، بل أحياناً قاتلة صامتة؛ وعندما تتآمر الطبيعة.. مطر، وطين، وانهيار، لا أحد يستطيع أن يوقفها.

في السياق، يقول المحامي والكاتب المصري “محمد عادل زكي”: ”في ترسين بدارفور، ابتلع الانهيار الأرضيّ قريةً كاملة، وراح أكثر من ألف إنسان تحت الركام. لو كانت الكارثة في فلوريدا، لانتفضت العروش، واهتزّت الشَّاشات وارتجّت العواصم بالبيانات والاستغاثات. لكن، لأن دارفور مَنسيَّة، مرَّ العالم على المأساة كأنها لم تقع!“

بين الجبل والذهب

 وفي ذات الإطار، يأتي الخطر أحياناً من فوق، وأحياناً من تحت؛ في جبل مرة، كما في غيره، ينهش الإنسان الجبل بالتنقيب العشوائي، يفتت صخوره بحثاً عن الذهب، كما لو كان ينقب عن نهايته؛ “شنقلي طوباي تلقي لي دهباي”؛ هكذا كانوا يقولون قديماً في دارفور، حيث تتحول كل حجارة إلى حلمٍ، وكل حلمٍ إلى خطر.

“ما هي الدنيا بلا ساعة انبساط؟ في النهاية الدنيا آخرها كوم تراب. وكل شيء زائل، وكل حي للموت”.

حمور زيادة / النوم عند قدمي الجبل

إلى ذلك يزيد الرعي الجائر الطين بلِة؛ ومع كل موسم جفاف، تتآكل التربة، تنكشف الجذور، وتتعرى الأرض، وعندما تأتي الأمطار، لا تجد الأرض ما يمسكها، فتجرف كل شيء، من العشب إلى البشر.

الجبل الذي ينام.. والبركان الذي لا يُنسى

 وفي ذات الاتجاه، جبل مرة ليس مجرد جبل؛ يقال إنّه بركان خامد منذ أكثر من 500 عام، لكن هل يظل البركان نائماً إلى الأبد؟ في عامٍ تشهد فيه الأرض اهتزازات غير معهودة، وزلازل تُفاجئ مدناً آمنة، وبراكين تثور من سباتها الطويل، وفي غياب الرصد في بلاد أنهكتها الحروب والانقسامات السياسية والتفتت الاجتماعي، هل نطمئن أن الجبل سيبقى ساكناً إلى الأبد؟ المؤكد إن كان الجبل نائماً، فالموت عند قدميه لا ينام.

وفي السياق، ناشد رئيس وزراء حكومة بورتسودان المنظمات الأممية قال رئيس الوزراء “كامل إدريس” إن الحكومة السودانية تسعى لتقديم كل ما يمكن من الدعم والإغاثة لمساعدة المتضررين من “الكارثة الأليمة” بقرية ترسين بجبل مرة في دارفور.. ووفقاً لوكالة السودان للأنباء، فقد ناشد إدريس “كل منظمات العون الإنساني للوقوف وتقديم كل ما يمكن بصورة عاجلة”.

”ثمة مجتمعات يتحكم فيها شخص ما بحياة الناس وأسلوب عيشهم، لا بالاستبداد فقط، بل باستدامة جهلهم أيضاً“.

حمور زيادة/ النوم عند قدمي الجبل

في المقابل، نادت حكومة تأسيس قائلة: ”ببالغ الحزن والأسي ينعي رئيس وزراء حكومة السلام الأستاذ محمد حسن التعايشي ضحايا الانزلاق الأرضي في قرية ترسين بجبل مرة ، إن هذه الفاجعة الإنسانية المؤلمة تُذكّرنا بواجبنا المشترك في التضامن والتكاتف من أجل إنقاذ الأرواح والتخفيف من المعاناة. وفي هذا الصدد، أجرى رئيس الوزراء اتصالاً مباشراً مع القائد عبد الواحد محمد نور، رئيس  حركة تحرير السودان، للوقوف على آخر التطورات الميدانية وتقييم حجم الكارثة والاحتياجات العاجلة“.

إلى ذلك، بين حكومتين في الشرق وأخرى في الغرب، يظل الوطن ضائع في التيه والعسكر والبندقجيَّة تجدهم في غيّهم يَعْمَهُونَ، إذ يجلس السودان تحت سفح العالم، منادياً بصوتٍ خافتٍ يكادُ أنّ يتِمُ هسيساً: ”هل من شاغرٍ في القمة؟“.

 مأساة لا يجب أن تتكرر

من الجلي للعيان، أن ما حدث في “ترسين” ليس مجرد كارثة طبيعية، إنه أيضاً نتاج إهمال طويل، وسوء تخطيط عمراني، وتغييب كامل لأي دور وقائي من السلطات؛ في عالم اليوم، لا ينبغي أن تندثر قرية كاملة تحت الطين دون وجود خرائط إنذار مبكر، أو لجان بيئية ترصد الخطر.

إلى ذلك، المعروف أنّ الجبال لا ترحم؛ والطبيعة لا تنتظر أن نستفيق؛ ومَن عاشوا عند قدمي الجبل يستحقون أكثر من كلمات رثاء، يستحقون دولة تحميهم، ووعياً يعلّم أطفالهم أن الحياة قرب الجبل ليست رومانسية خالصة، بل مقامرة.

في السياق، يقول الكاتب والإذاعي “حسن فاروق”: ”ترسين، قرية اختفت بسكانها الألف في لحظة من الوجود، نجا واحد، المشهد أشبه بدراما منتجها ومؤلفها ومخرجها واحد، قرية كاملة اختفت بسكانها وبيوتها شيء أشبه بالخيال، كيف حدثت هذه الكارثة، السيول والأمطار الفاعل والمتهم الأول، فعلتها الطبيعة، لم تفعلها الطبيعة فعلها من جعلوا من قرية ترسين بجبل مرة وسكانها. وغيرها من قرى كثيرة منتشرة في الجبل ضحايا لمظالم تاريخية، ضحايا الحرب وجنرالاتها، ضحايا الإهمال والموت والمرض والفقر والجوع، اختفاء قرية وموت سكانها كارثة موجعة ومفجعة، لن تكون محل اهتمام الجالس على سلطة مزيفة في نيالا، ولن تمر بخاطر المتمدد على كرسي حكم متآكلة أرجله تنذره بقرب السقوط في بورتسودان، اكتفت الحركة المسيطرة على الجبل بتدوينة عزاء على السوشيال ميديا تحكي عن عجزها وقلة حيلتها. ترسين، ليست مجرد قرية هزمتها الطبيعة، ترسين، شاهد على خيباتنا التاريخية، وموثق لأزمة وطن“.

 “ترسين” سقطت.. و”ترسين” أخرى تنتظر!

 إزاء ذلك، “ترسين” سقطت، لم يبقَ من بيوتها أثر، ولا من شوارعها طريق، لم يعُد البرتقال يُقطف هناك، ولم تعُد ضحكات الأطفال تُسمع عند الرعي، تحت أطنانٍ من الطين والتراب، دفنت قرية كاملة.. وربما، في مكانٍ ما، على سفح جبلٍ آخر، تترقب قرية أخرى مصيرها.. هل ننتظر حتى يكتب لنا الموت رسالة جديدة… عند قدمي جبلٍ آخر؟

إلى ذلك يقول الإعلامي “عبد المنعم المهل” مناشداً: ”أليس من عقلاء يوقفون الحرب؟ استمرار الموت بالكوارث أو الحروب أو الأوبئة يعني فقداً لا يُعوّض، وثمناً لا تستطيع الإنسانية احتماله“.

 

Exit mobile version