
إعداد: محمد أحمد
نشرت مجلة Eurasia Review تقريراً بتاريخ 3 سبتمبر 2025 أشارت فيه إلى أن الطائرات المسيّرة التركية التي حصلت عليها القوات المسلحة السودانية لم تحسم الصراع كما كان متوقعاً. فرغم أن أنقرة زوّدت الجيش منذ نوفمبر 2023 بصفقة بلغت قيمتها 120 مليون دولار، شملت مسيّرات Bayraktar TB2 وأقنجي وأنظمة تحكم وذخائر متطورة، إلا أن هذه الأسلحة ارتبطت بارتفاع كبير في عدد الضحايا المدنيين. ووفقاً لبيانات Action on Armed Violence، فإن أكثر من نصف المدنيين الذين قُتلوا في 2024 سقطوا نتيجة أسلحة جوية، في وقت كثّفت فيه قوات الدعم السريع قدراتها الدفاعية وأسقطت مسيّرات متطورة في دارفور والفاشر. كما ذكرت المجلة أن الدعم السريع لم يكتفِ بالتصدي للطائرات، بل شنّ هجمات مضادة على ميناء بورتسودان استهدفت البنية التحتية الداعمة لتشغيلها، ما أعاق فعالية الجيش السوداني.
منذ أواخر عام 2023، دخلت الحرب السودانية مرحلة جديدة مع انخراط الطائرات المسيّرة في المعارك بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) . البداية كانت مع مسيّرات إيرانية من طراز Mohajer-6 وصلت عبر جسور جوية خفية، أعقبتها صفقات ضخمة مع تركيا شملت مسيّرات Bayraktar TB2 وأقنجي [1][2]. هذه الطائرات منحت الجيش قدرة أكبر على الاستطلاع وتنفيذ ضربات دقيقة، لكنها سرعان ما واجهت مقاومة منظمة من جانب قوات الدعم السريع التي طوّرت دفاعاتها الجوية وأدخلت مسيّراتها الخاصة، ليصبح التفوق الجوي ساحة تنافس لا حسم فيها.
رغم العقوبات الأمريكية والأوروبية، استطاعت تركيا تمرير عقدها العسكري مع الخرطوم، بينما وثّقت تقارير دولية أن الجيش استخدم أيضاً مسيّرات إيرانية وصلت عبر رحلات لشركة Qeshm Fars Air. في المقابل، حصلت قوات الدعم السريع على مسيّرات صينية الصنع من طراز CH-95 تم تشغيلها من قواعد في نيالا، إضافة إلى تقارير عن دعم خارجي عبر تشاد يُرجَّح ارتباطه بالإمارات. هذه الشبكات المتعددة عكست هشاشة نظام العقوبات الدولي، وأظهرت كيف تحول السودان إلى ساحة اختبار لتكنولوجيا عسكرية متقدمة تستوردها الأطراف المتحاربة بطرق ملتوية.
خلال النصف الأول من 2024، ساعدت المسيّرات الجيش السوداني على وقف تقدّم قوات الدعم السريع داخل الخرطوم والجزيرة. فقد نفّذت الطائرات الإيرانية والتركية ضربات دقيقة ضد أرتال متحركة وجسور استراتيجية، وهو ما مكّن الجيش من استعادة مواقع مهمة. غير أن هذه النجاحات التكتيكية ترافق معها ثمن إنساني فادح. فقد قُتل أكثر من 4478 مدنياً في 2024 وحدها، نصفهم تقريباً نتيجة ضربات جوية. وبالنظر إلى طبيعة القتال في مناطق مكتظة بالسكان، تحوّلت المسيّرات إلى مصدر رعب دائم للمدنيين، إذ بات التحليق في سماء الخرطوم أو الفاشر كفيلاً بإفراغ الأسواق والمدارس والمستشفيات من مرتاديها خشية غارة مباغتة.
التقارير الحقوقية تشير إلى أن استخدام المسيّرات لم يكن محصوراً في الأهداف العسكرية، بل طال أسواقاً شعبية كمجزرة سوق الفاشر في مارس 2025، حيث قُتل عشرات المدنيين في هجوم وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه “عشوائي وغير متناسب”. مثل هذه الحوادث جعلت الطائرات المسيّرة رمزاً للرعب في المخيلة الشعبية، لا سيما أن كثيراً من الضربات كانت تقع في أوقات الذروة حين يزدحم المدنيون. وبذلك أصبح السؤال الإنساني محورياً: هل يمكن تبرير استخدام هذه الأسلحة تحت شعار “تحقيق النصر” بينما ضحاياها الأوائل هم الأبرياء؟
لكن قوات الدعم السريع لم تقف مكتوفة الأيدي. فمنذ منتصف 2024، طوّرت شبكة دفاع جوي متعددة الطبقات تضمنت أنظمة صواريخ أرض–جو ومنظومات حرب إلكترونية مثل Groza-S [6]. هذه القدرات سمحت لها بإسقاط مسيّرات متطورة؛ ففي يونيو 2025 أسقطت مسيّرة أقنجي في نيالا، ثم أخرى في يوليو فوق الفاشر. هذه النجاحات العسكرية وفّرت دعماً معنوياً لقوات الدعم السريع، لكنها لم تقلل من الكلفة الإنسانية، إذ إن إسقاط المسيّرات غالباً ما ترافق مع سقوط حطامها على أحياء سكنية أو مخيمات نازحين، ما أدى بدوره إلى إصابات وقتلى بين المدنيين.
في المقابل، نقلت قوات الدعم السريع المعركة إلى العمق عبر تنفيذ هجمات مسيّرة على ميناء بورتسودان في مايو 2025، حيث استهدفت مراكز تدريب وصيانة ومقار خبراء أتراك. هذه الهجمات لم تغيّر فقط مسار الحرب، بل زادت من قلق المدنيين في الشرق، الذين كانوا يعتقدون أنهم بعيدون عن دائرة الصراع. وهكذا، تحولت المسيّرات إلى أداة لتوسيع نطاق الحرب، مضاعفة المخاطر الإنسانية في مناطق لم تكن ضمن مسرح العمليات المباشر.
هذا التوسع في استخدام المسيّرات يعكس إشكالية أعمق: القدرة على تحقيق مكاسب تكتيكية دون حسم استراتيجي. فالجيش السوداني استفاد من الضربات الدقيقة للاستطلاع واستعادة مواقع، بينما نجح الدعم السريع في كسر احتكار الجيش للأجواء وشنّ ضربات على بورتسودان. ومع ذلك، ظل الإخفاق المشترك هو العجز عن ترجمة هذا التفوق الجوي إلى سيطرة دائمة على الأرض. بل إن المدن الكبرى مثل الخرطوم والفاشر بقيت ساحة تبادل للسيطرة، ما جعل المدنيين في قلب الدوامة دون حماية حقيقية.
الأكثر خطورة أن الطائرات المسيّرة زادت من تعقيد الجهود الإنسانية. فمع اتساع رقعة القصف الجوي، واجهت منظمات الإغاثة صعوبة في إيصال المساعدات، لا سيما بعد استهداف مخازن غذائية وسيارات إسعاف بضربات جوية. بعض المنظمات علّقت عملياتها مؤقتاً في دارفور والجزيرة، فيما أُجبرت آلاف العائلات على النزوح المتكرر بحثاً عن مناطق “آمنة نسبياً”. لكن في واقع الحال، لم يعد ثمة مكان آمن؛ فالمسيّرات قادرة على ضرب أي هدف في أي وقت، وهو ما فاقم من شعور المدنيين باللاجدوى واليأس.
البعد الإنساني يتجاوز الخسائر المباشرة ليشمل الأثر النفسي والاجتماعي. فالمشاهد اليومية لأطفال يركضون مذعورين مع صوت الطائرات، والقصص المتكررة عن عائلات أُبيدت في غارة واحدة، تركت جروحاً غائرة في الذاكرة الجمعية للسودانيين. علماء الاجتماع يرون أن الحرب المسيّرة في السودان قد تترك آثاراً نفسية طويلة الأمد تشبه تلك التي عانت منها شعوب مناطق أخرى مثل غزة أو اليمن، حيث بات التحليق المستمر للطائرات المسيّرة مرادفاً للخوف الدائم.
على الصعيد الدولي، أثارت هذه التطورات قلقاً متزايداً بشأن شرعية استخدام المسيّرات. فبينما يؤكد قادة الجيش السوداني أنها وسيلة “ضرورية لحسم المعركة”، تصفها المنظمات الحقوقية بأنها “انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني”. ورغم قرارات مجلس الأمن بتمديد حظر السلاح، استمرت شبكات الإمداد عبر تركيا وإيران والصين بلا عوائق تُذكر. هذه المفارقة كشفت ضعف النظام الدولي في ضبط تجارة السلاح، وأظهرت كيف يدفع المدنيون ثمن العجز الدبلوماسي العالمي.
المفارقة الأخرى أن التجربة السودانية تعكس درساً شبيهاً بما حدث في حروب أخرى. ففي ليبيا وأوكرانيا وناغورنو كاراباخ، لعبت المسيّرات أدواراً حاسمة لكنها لم تنه الصراعات، بل أضافت طبقة جديدة من الدمار والتعقيد. السودان اليوم يكرر ذات المشهد: طائرات متطورة ترفع وتيرة العنف، لكنها تعجز عن خلق نصر مستدام.
غيّرت الطائرات المسيّرة طبيعة الحرب السودانية، لكنها لم تغيّر نتيجتها. فقد منحت الجيش تفوقاً مؤقتاً، قبل أن ينجح الدعم السريع في تطوير دفاعاته والرد بالمثل. النتيجة حرب بلا غالب ولا مغلوب، وأفق إنساني يزداد قتامة مع كل غارة جديدة. وفي حين تُعرض هذه المسيّرات كرمز للتطور العسكري، فإنها في نظر ملايين السودانيين لم تكن سوى وجه آخر للمأساة، وأداة عمّقت الجراح وأظهرت محدودية السلاح وحده في تحقيق السلام .