
يكشف هذا التحقيق عن مفارقة مؤلمة، فبينما تعمل شبكات منظمة تحت حماية مسؤولين على نهب تاريخ السودان وبيعه في الأسواق العالمية، يقف مواطنون بسطاء، مسلحون بالوعي والحرص على ممتلكات الدولة السودانية، كحراس غير متوقعين لهذا الإرث. إن المعركة من أجل آثار السودان ليست مجرد معركة ضد اللصوص، بل هي صراع ضد منظومة فساد عميقة وإهمال مزمن. ومع استمرار الحرب التي فاقمت كل الأزمات، يقف ما تبقى من ذاكرة أمة على حافة الهاوية، في انتظار إما أن تبتلعه الفوضى بالكامل، أو أن ينتصر فيه صوت الوعي والمسؤولية.
موفق حامد – أفق جديد
في السنوات التي سبقت الحرب، نشطت شبكة معقدة ومحكمة التنظيم، تمتد خيوطها من الرمال الصامتة في شمال شندي ومحيط مروي، حتى ضواحي الخرطوم. تضم هذه الشبكة منقبين محليين عن الآثار، وخبراء أجانب، وتجار آثار ووسطاء، ونافذين في الأجهزة النظامية. لم تكن هذه الشبكة تعمل في الظلام فقط، بل تحت حماية رسمية أحياناً، حيث تشير المعلومات الميدانية إلى تورط عناصر بارزة من الجيش، والجمارك، وشرطة السياحة، في تسهيل عمليات التنقيب غير المشروع وتهريب القطع الأثرية إلى خارج السودان، لا سيما نحو الإمارات وتركيا عبر وسطاء معروفين.
“القطع لا تبقى أكثر من 48 ساعة في الموقع بعد استخراجها”، يقول مصدر محلي مشارك سابق في عمليات التهريب: “تُنقل فورًا إلى الخرطوم، وتُخزَّن في منازل ومباني فخمة في أحياء العاصمة، ويتم تغيير موقعها كل يومين لتفادي الخطر أو تسرب المعلومات”. ويكشف المصدر المحلي عن متطلبات عمليات التهريب وتكون على مستوى عالٍ من التنسيق والخبرة، ويشمل ذلك نقل القطع داخل العاصمة الخرطوم نفسها بشكل دوري. فبحسب شهود عيان تحدثوا للمحرر لا تُترك أي قطعة أثرية ثمينة في ذات الموقع أكثر من 48 ساعة، بل تُنقل بين مخابئ متعددة من منزل في الطائف شرق العاصمة الخرطوم إلى فيلا في كافوري أقصى شمال شرق العاصمة السودانية، ثم إلى منزل بأم درمان غربي الخرطوم ، ضمن حلقة محكمة تعتمد على السرية والولاء الشخصي أكثر من البنية التنظيمية الرسمية.
أما عمليات البيع فتتم عبر قنوات سرية، تتضمن تصوير القطعة من زوايا متعددة وإرسالها إلى المشترين المحتملين، ثم فحصها عبر خبراء آثار أجانب متعاونين لتحديد قيمتها وتاريخها، وأخيراً تنظيم التهريب عبر شحنات مغلّفة في معدات صناعية أو ضمن حاويات مغلقة تحت غطاء بضائع تجارية.
لقد خلق هذا الواقع بيئة مثالية لازدهار التجارة غير المشروعة للآثار، حيث تلاشى الخط الفاصل بين المنقّب العشوائي والضابط النظامي، وبين الحفر البدائي والتسويق المتقن. ومع غياب المحاسبة، باتت الدولة، عن قصد أو تغاضٍ، شريكة في الجريمة ضد إرثها الحضاري.
وتتبعت مجلة “أفق جديد” بعض الخيوط إضافة إلى شهادات مشاركين في العمليات استنطقهم المحرر ما قاد إلى الكشف عن تورط عدد من الضباط السابقين في الجيش السوداني خلال حكم نظام الإنقاذ، كانوا يعملون على نبش وسرقة المواقع الأثرية ويتولّون الإشراف على هذه العمليات. ومن بينهم أسماء وردت في شهادات متعددة بعضهم برتبة لواء ركن بالجيش متقاعد تولّى منصب الأمين العام المكلف للهيئة الاقتصادية الوطنية في عهد الرئيس عمر البشير، بالإضافة إلى عدد من المناصب السياسية الأخرى، ومنهم ضابط برتبة عميد ركن متقاعد من الاستخبارات العسكرية ورد اسمه في سياق تنسيق عمليات التنقيب وشحن الآثار وتخزينها في الخرطوم. إلى جانب ضابط برتبة فريق شرطة من الإدارة العامة للجمارك وعناصر من شرطة السياحة قدّموا تسهيلات عبور وتجاوز إجراءات التفتيش في المطارات والموانئ البحرية.
هذا المستوى من التورط يفتح الباب أمام التساؤلات حول “الفساد المحمي”، حيث تُحوّل أجهزة الدولة إلى مظلة للنهب، وتُستخدم البنية الأمنية ذاتها لضمان استمرار العمليات بعيدًا عن أعين الرقابة أو المحاسبة.
سوق سوداء على أنقاض الحضارة
القطع التي كانت تُنهب ليست تماثيل حجرية مجهولة، بل كنوز تحمل قيمة حضارية ومادية هائلة. فعلى سبيل المثال: تمثال “أوشبتي” تمثال جنائزي من الذهب الخالص يحمل نقوشًا هيروغليفية تدفن بطريقة خاصة مع الملوك والأمراء ورجال الدين، تقدر قيمته في السوق السوداء بما يتجاوز مليون دولار أمريكي. اطلعت “أفق جديد” على صورة للتمثال مستخدمة للترويج، كذلك اطلعت على صور لثلاثة تماثيل جنائزية من الذهب الخالص معروضة للبيع. تفاصيل التمثال: (اللغة المستخدمة هي اللغة المصرية القديمة المكتوبة بالخط الهيروغليفي التي كانت تستخدم في النقوش الدينية، وهناك نقوش على الشريط تشمل رموزًا مثل عين الواجيت أو عين حورس رمز الحماية والعناية الإلهية ورمز السوط والعصا وعلامة عنخ)، ووفقًا لخبير آثار – فضل حجب اسمه – فإن الأصل الجغرافي والتاريخي لهذه القطعة التي تحمل ملامح مشتركة بين الفن المصري والفن الكوشي هو طراز شائع في مواقع مثل نوري والبركل في المدافن الملكية النوبية وجبل المقطم ومروي في المعابد والقصور، يعود التاريخ للفترة بين 300 ق .م الى 800 م.
كما تمت سرقة بعض المجوهرات التي تُستخرج من المدافن الملكية تحتوي على أحجار نادرة مثل العقيق النوبي واللازورد، وتباع بأسعار توصف بالخيالية للجامعين الأثرياء عبر وسطاء في إسطنبول ودبي.
حين ينقذ الوعي ما أهملته الدولة
في مقابل شبكات النهب المنظم، يبرز وجه آخر للسودان، وجه يمثله مواطنون بسطاء، فلاحون وعمال، حولتهم الصدفة إلى خط الدفاع الأول عن تاريخ بلادهم. إن باطن الأرض في شمال السودان لا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار، وفي كثير من الأحيان، يكون المواطن العادي هو من يزيح الستار عن هذه الكنوز، لتصبح قصته جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الاكتشاف نفسه.
نموذج مقاشي (2014): وعي مجتمعي يعيد كتابة التاريخ
في مارس من عام 2014، شهدت قرية مقاشي بمحلية مروي حدثاً لم يكن في الحسبان، أثناء حفر أساس مئذنة مسجد في القرية، عثر الأهالي على قطعة فخارية ملونة غير مألوفة، أدرك المواطنون أن القطعة تعود لفترة تاريخية قديمة، فقاموا بوقف أعمال البناء وأبلغوا الجهات المختصة. استجابت الهيئة القومية للآثار والمتاحف بالتنسيق مع قسم الآثار بجامعة دنقلا، وأرسل فريق أثري بقيادة الدكتور مرتضى بشارة المحاضر بكلية الآثار بجامعة دنقلا وقتها .
أسفر التنقيب العلمي عن اكتشاف ثلاثة قبور تعود لحضارة كرمة (2500–1500 ق.م). أهمية الاكتشاف تكمن في أنه كشف عن وجود آثار لحضارة كرمة في موقع جنوبي عن نطاقها المعروف، مما دعم نظرية أن حضارات كرمة ونبتة ومروي تمثل مراحل متعاقبة لحضارة “كوش” الواحدة. لقد كان وعي الأهالي هو الشرارة التي أدت إلى هذا الكشف العلمي المهم.
اكتشاف “أرتولي”.. فأْس مزارع ترسم خريطة جديدة
تُعد قصة الاكتشاف في منطقة “أرتولي” بريف “العبيدية الفاروق” في محلية بربر بولاية نهر النيل، مثالًا نموذجيًا آخر. في يوليو 2017، وبينما كان أحد المزارعين يقوم بأعمال حفر لري أرضه، قادته الصدفة إلى كشف مقابر بشرية نادرة تضم رفاتاً وعظاماً تعود لفترة تمتد من العصر الحجري وصولاً إلى الحضارة المروية.
بمجرد إبلاغ السلطات، تحركت هيئة الآثار، واللافت كان التفاعل الإيجابي من المجتمع المحلي، فالمواطنون لم يكتفوا بالتعاون، بل أرشدوا الفريق الأثري إلى مواقع أخرى محتملة. هذا التحول من مكتشف فردي إلى مجتمع متعاون يبرز كيف يمكن لحدث عارض أن يشعل شرارة الوعي ويحول السكان المحليين إلى حلقة أساسية في سلسلة حماية التراث.
المواطن بوصلة الآثاريين
هذه الحوادث ليست معزولة ففي عام 1994، شهدت منطقة كريمة واقعة دالة حينما كانت بعثة ألمانية تنقب في منطقة جبل البركل وبفضل المعلومات والتعاون المحلي، تم اكتشاف معابد ضخمة ومقتنيات ثمينة. يؤكد ياسين إبراهيم، مفتش الآثار بالهيئة العامة للآثار والمتاحف، أن هذه المنطقة “حُبلى باكتشافات أثرية متعددة”، وأن “كثيرًا من المواطنين قد أبلغوا عن آثار”. حديث ياسين يكشف أن المعرفة بوجود الآثار ليست حكرًا على الخبراء، فالسكان المحليون هم المصدر الأولي للمعلومات التي قد تقود إلى اكتشافات عظيمة لو تم استثمارها بشكل منظم.
قانون بلا أنياب
بين فساد النخبة ووعي البسطاء، تقف منظومة حماية رسمية تعاني من تحديات وجودية. المنطقة الممتدة بين شندي ومروي تعرضت لواحدة من أكثر عمليات النهب كثافة. ومن أبرز الأمثلة ما حدث في موقع جبل المراغة الأثري، الذي أُزيل بالكامل نتيجة تنقيب عشوائي عن الذهب، حيث حفر المنقبون خندقًا بعمق تجاوز 17 مترًا، مدمرين الموقع بشكل لا رجعة فيه. كما تعرض موقع جبل البركل لسرقة ما لا يقل عن 50 تمثالًا جنائزيًا بين عامي 2000 و2008، والحديث هنا للمفتش بهيئة الآثار ياسين .
موضحاً في حديثه لمجلة “أفق جديد” أن هيئة الآثار والمتاحف تعتمد على حماية قانونية تستند إلى قانون حماية الآثار لعام 1999م إلى جانب وسائل مادية محدودة مثل بناء أسوار حول بعض المواقع، واستدرك بقوله: “لكن ضعف التمويل يمنع توفير حراسة دائمة أو أنظمة مراقبة فعالة لآلاف المواقع المنتشرة في السودان، وعلى الرغم من خضوع البعثات الأجنبية للتنقيب عن الآثار لشروط واضحة تلزمها بتسليم المكتشفات، إلا أن بعض القطع التي خرجت لأغراض البحث لم تعد، بسبب غياب آليات متابعة فعالة من جانب السلطات السودانية “.
وكانت السلطات الأمنية قد أحبطت عددًا من محاولات التهريب، وضبطت 92 قطعة أثرية بين عامي 2017 و2021، ورغم هذه الجهود إلا أن الإطار القانوني يظل التحدي الأكبر. قانون حماية الآثار لعام 1999م، وتجريمه للتهريب والتزوير والتنقيب غير المرخص في مواده (31، 33، 21)، إلا أن العقوبات التي تتراوح بين الغرامة والسجن لمدة محدودة، لا تتناسب مع حجم الجريمة ولا تشكل رادعًا كافيًا في ظل وجود شبكات إجرامية دولية منظمة، وفقاً لياسين.