حول العرض المسرحي (مشتاقين كتير)

السر السيد

مدخل:

يقع العرض ضمن اشتغالات برنامج (مسرح البنات) الذي تشتغل عليه (منطقة صناعة العرض المسرحي)، وهي رؤية ومشروع مسرحي أسسه المسرحي وليد الألفي.

يمكن القول وبشكل موجز إن المشروع بدأ التأسيس له في بدايات العام 2023م، وكانت انطلاقته في نهاية نفس العام في ولاية النيل الأزرق. أما فكرته الأساس فتقوم على أن تكون النساء شريكات في صناعة العرض المسرحي، ليس على مستوى التمثيل فقط وإنما على مستوى كل عناصر العملية المسرحية، كما أنه يركز على مقاربة حيوات النساء وإعلان قصصهن مع القهر والعنف، ومع المقاومة والدفاع عن الحياة عبر منظور كلي اجتماعي وسياسي وثقافي. هذا المسرح يعتمد على البحث والتدريب، إذ إنه في غالب الأحيان لا يعتمد على الممثلين المعروفين وإنما يراهن راغبين وراغبات في فن التمثيل، ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أنه يتوسل في صناعة عرضه بكل تقنيات العرض المسرحي المعروفة، كما أنه يحاول أن ينسج عرضًا يقوم بالاتكاء على جماليات الثقافات السودانية في الحكايات والأداءات.

من ضمن العروض التي قدمها البرنامج نذكر عرض مسرحية “أنين الروح” لصانعته الشابة استقلال محمود.

العرض المسرحي (مشتاقين كتير)، أنتجته منطقة صناعة العرض المسرحي بالاشتراك مع ديوفلمنت هوب وصانع العرض المسرحي وليد الألفي.. قدم العرض بتاريخ ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ على مسرح (لابونيتا)، في العاصمة اليوغندية كمبالا.

قبل الدخول إلى عوالم العرض أجد من المناسب الإشارة إلى الفكرة وهي للفيلسوف جيل دولوز بتصرف وتقول: (الفن ليس انعكاسًا للواقع كما أنه ليس وسيلة للترفيه فقط، ذلك لأن الفن -أي فن -يقوم على ابتداع لغة داخل اللغة، ولعل هذا ما يجعله ينتمي لفعل المقاومة). وأيضًا إلى قول باختين عن الاحتفال حسب د. هاشم ميرغني في كتابه (الرواية مسرحًا لجدل الهويات وإعادة انبنائها)، إذ يقول: (المكان الذي يتم التدرب فيه على نمط جديد من العلاقات على نحو متجسد حسيًا وشبه مسرحي، يدخل بصفة وضعٍ للعلاقات السوسيو تراتبية التي تتضمنها الحياة اللا كرنفالية.. المكان الذي يفسح المجال على نحو متجسد حسي أمام الحوانب الخفية في الطبيعة الإنسانية لتظهر وتعبر عن نفسها).

في العرض:

منذ اللحظات الأولى للعرض سيجد الجمهور نفسه وجهًا لوجه أمام مكان يضج بالحياة يصنعه تآزر لغات العرض، (اللغات الملفوظة التي ترواحت بين تنوع العاميات العربية ولغات سودانية من غير العربية ولغات أجنبية، والموسيقى والمؤثرات الصوتية والأزياء، وأدائيات الجسدية والأكسسوارات كالحقائب التي لعبت دورًا مركزيًا في العرض بحضورها الكثيف وأصوات تحركها القلق، إضافة إلى حضور أنماط نصية جمعت بين الشعر والسرد والغناء والرقص مشكلة نوعًا من الفعالية النصية داخل العرض).. هذا الكون المحتدم من العلاقات الذي يتجسد به العرض ينهض بالأساس بشكل عام على ما يمكن تسميته بتقاطع الذاكرة مع الهوية، إذ أن الشوق أو الاشتياق لا يقوم إلا بعد غياب أو فراق وما غاب لا يستحضر إلا بالتذكر.. هذا عن الذاكرة، أما بخصوص الهوية فإنها تتبدى في العرض على مستويات الجندر والثقافة والتاريخ.. في هذا الكون من اللغات الذي أراد صانعه أن يكون منفتحًا لا حدود له تنكسر الحدود الجغرافية التي يوحي بها العرض، التي هي السودان، وذلك عبر عدد من الأغنيات، مصرية، وخليجية، وإثيوبية، ويوغندية، وغربية.. ما نقصده هنا هو أن العرض يصنع هذا الكون لا من أجل البهرجة والمتعة فقط وهما ضروريان ومهمان بالطبع وإنما يصنعه بهدف تهشيم المكان المهيمن، أي السلطوي فمما تبني وتؤسس عليه السلطة -أي سلطة -حضورها هو المكان وذلك بالتدخل في أنماط تعبيره وإعادة إنتاجها.

فالعرض يشي بشكل واضح بالرحيل والمغادرة والفراق بسبب كوارث من بينها الحرب التي لم يسمها صراحة ولكننا نحس بها، لذلك يكون العرض بلغاته المتنوعة التمثيل، الأزياء، اللغات الملفوظة، الموسيقى والمؤثرات، الغناء، الرقص، يكون قد ذهب في مسار آخر غير مسار السلطة فهو أولًا استطاع أن يتفرس جماليات التنوع عبر بناء لحني كلي، ولكنه متعدد فقد كان باستطاعة الجمهور أن يرى كسر القوالب الجاهزة والسائدة مما ظل يردده أكثرية من السياسيين السودانيين عند طرحهم لسؤال التنوع والهوية، أن يرى -أي الجمهور – جماليات الاختلاف.

فقد كان العرض يتنقل من حكاية إلى حكاية ومن لغة إلى لغة ومن مكان إلى مكان ومن أغنية إلى أغنية، ومن رقصة إلى رقصة، ساردًا حكاية مركزها الاشتياق الكتير، ويبحر على قارب من المقاومة يكسر التنميط، بخلقه مجاورة أو تفاوض أو سمه تحالف بين الجسد الأنثوي والجسد الرجالي.. بين الأبنية اللحنية المختلفة، بين أصوات اللغات المختلفة.. بكلمة واحدة لقد حاول العرض أن يؤسس مكانًا للاحتفال كسر فيه التنميط ووزحزح به مخيالات السلطة، بل زحزح فيه بعض تقاليد العرض المسرحي التقليدي، فالعرض لا يحكي حكاية واحدة ولكنه يحكي حكايات يؤازر بعضها بعضًا.. إنه عرض يعبر عن أن لكل الأصوات الحق في الغناء، بل والحق حتى في الصراخ.. العرض الذي يبدأ من خلال تذكر شخوصه لأشيائهم الحميمة، الوسادة، كباية الشاي، الجيران، الأمكنة، يتصاعد ليحكي في مشهده الأخير عن غائبين كما في مشهد الجنازة (الموت)، لحظة أن تصرخ الشخصيات بصوت واحد، قوم.. قوم.. قوم.. قوموا، في مشهد مشحون بالشجن الخلاق، ترسو عنده قوارب الحنين، والشوق، واللوعة، تصعيدًا لارادة الحياة والأمل، وعند هذه اللحظة يكون من بعض ما يحققه هذا العرض في صناعه وفي الجمهور، هو تلك اللحظة التي يمكن وصفها بحالة التعافي التي تحول الاشتياق الذي كان كثيرًا إلى فعل تحرري.

شكرًا لصناع العرض جميعا وشكرًا لديفولمنت هوب وشكرًا للمسرحي وليد الألفي.

 

Exit mobile version