
علاء الدين بشير
قبل أسابيع قرأت بوستًا طويلًا ورشيقًا جدًا للروائي والكاتب حمور زيادة، استعرض فيه مسيرة التطور التكنولوجي التي عاشها في إطاره الخاص خلال سنوات عمره، من هوائي التلفزيون الملون الذي كان طفرة زمانه وحتى وقتنا الحالي عصر الانفجار الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. البوست محشود بالقصص والصور والمفارقات من الواقع السياسي والاجتماعي السوداني، من خلال تعامله البدائي نوعًا ما مع هذه القفزات في التطور المادي التي لم يصاحبها تطور موازٍ في الحس والرقي والتمدين .
ولم يخف حمور زيادة تشاؤمه من مستقبل تعاملنا كسودانيين مع هذا الانفجار المعرفي بالقياس إلى سلوكنا السابق والحالي معه، وأطلق تحذيرًا من إمكانية استغلال الذكاء الاصطناعي التوليدي كسلاح من قبل الداعمين للحرب سواء داخل السودان أو في الشرق الأوسط في إنتاج محتويات تمجد الحرب والخراب، في حين وجِدت هذه الأدوات في الأصل لسعادة الناس ورفاهيتهم .
قلق زيادة وتشاؤمه في محله تمامًا وفيه استبصار واستقراء ذكي لمستقبل تعاملنا مع هذه الأداة التكنولوجية الخارقة، وتنبيه للمخاطر الكبيرة المنطوية على دخول التكنولوجيا المتقدمة إلى حياتنا دون استئذان أو استعداد لها لا من الناحية المعرفية ولا الأخلاقية.
أفكر دائمًا في نعمة التطور التقني ونقمته في الوقت ذاته من منظور مهنة الصحافة والإعلام.. كانت المنابر الإعلامية في السابق حكرًا على أصحاب الوعي والقدرات الفكرية والمعرفية تتاح لهم الفرصة لتشكيل الوعي والرأي العام والتنوير.. في بلادنا وبسبب من التخلف الاقتصادي والتنموي ونقص الخدمات ونقص التعليم وانتشار الأمية، أصبحت هناك فجوة معرفية بين المواطنين في مناطق السودان المختلفة والبعيدة في تلقي رسائل الوعي والمعرفة، ما خلق تفاوتًا وما يمكن أن أسميه بالطبقية التوعوية التي أنتجت كذلك تفاوتًا في الوضع الاقتصادي والرقي الاجتماعي، وانعكس ذلك في الخطابات السياسية والثقافية المعاصرة إلى ما بات يعرف بخطاب الهامش والمركز، وأدى في الوقت نفسه إلى الجفاء وانعدام الوحدة الشعورية والوجدانية بين أبناء الوطن الواحد ومن ثم إلى الحروب الأهلية المتطاولة التي عشناها وإلى انفصال جزء عزيز من الوطن عنه ولا تزال مخاطر التفتيت جراء ذلك ماثلة.
الآن في عصر التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات والانفجار الرقمي والذكاء الاصطناعي، صار هناك ما يمكن تسميته (ديمقراطية المعرفة النسبية) التي جعلت المعلومات متاحة للجميع. فقد أتاحت لي ثورة الاتصالات في نوفمبر من العام 2011 أن أتابع تطورات الثورة الليبية ومقتل القذافي وسقوط نظامه العتيد من مقهى شعبي بائس عبارة عن رواكيب من القش والخيش وعناقريب في خلاء النيل الأبيض، حينما اضطررت لقضاء ليلتي هناك بعد أن بلغت ورفاقي ركاب البص مشارف كوبري كوستي في رحلتنا القاصدة إلى مدينة الأُبيض (فك الله حصارها وأعاد لها سلامها وطمأنيتها) بعد الساعة السابعة مساء، وهي نهاية الزمن المحدد من السلطات هناك لعبور المواصلات العامة.
في تلك المضارب الموحشة لم تكن هناك مراحيض ويقضي الناس حاجتهم في الخلاء، ولا توجد كهرباء وتُجلب المياه بالدواب التي تجرها عربات الكارو من مكان بعيد، ولكن بالمقهى الشعبي البائس طبق فضائي وتلفزيون يعمل بواسطة بطارية السيارات مكننا ذلك من مواكبة ما يدور في العالم من أحداث عبر القنوات الإخبارية الفضائية المختلفة وبكل اللغات، مع العلم أن الهواتف الذكية لم تكن دخلت الخدمة بعد.. كنت قد تركت ثورتها بدأت لتوها في أمريكا التي كنت عائدًا منها قبل أيام، وذلك عبر هواتف آبل في قطاع محدود جدًا من الناس هناك مخلفين ورائهم الـBlack Berry الذي لم تدم سطوته كثيرًا.
بعد أقل من عام تقريبًا من رحلتنا تلك وفي قفزة وانفجار عظيم انداحت الهواتف الذكية واكتسحت بشركاتها المتعددة كل الدنيا، وصارت في متناول أغلب الناس وهو ما كان انتبه إليه وحلله باكرًا الصحافي والمفكر الأمريكي الشهير توماس فريدمان في كتابه (The World Is Flat – العالم مسطح) الذي صدر في النصف الثاني من الألفية وذاع صيته وترجم إلى لغات عديدة، حيث يرى فيه أن التطور التكنولوجي والنمو الاقتصادى النسبي غيّر وإلى الأبد هرمية العالم، حيث صارت قمة الهرم تتسطح وتتسع وأصبحت الفجوة المعرفية تضيق ما بين العالم الأول والعوالم الأخرى، وصارت التكنولوجيا والمعرفة المتطورة تنتشران في وقت وجيز ما بين مظان إنتاجها في أمريكا مثلًا وإلى أكثر دولة بؤسًا في أفريقيا لا يتعدى أشهرًا معدودة، وذلك بدفع منطق السوق والتنافس والتربح الاقتصادى ليس إلاّ.
نظرية تسطيح العالم هذه يمكن أن نسحبها ولكن (بحذر) على مجتمعنا السوداني بطبقاته في أطرافه المختلفة.. صارت المعرفة مثل (ضي الشموس تدخل رواكيبنا وأوضنا) كما كتب الراحل سعد الدين إبراهيم وغنى الشامخ أبو عركي.
أتاح كل ذلك لأن يصبح الفضاء الأسفيري مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي مشاعًا للجميع، فرغم أن السوشيال ميديا لعبت دورًا كبيرًا وأساسيًا في إطلاق ثورة ديسمبر المجيدة من خلال التعبئة والتحشيد الجماهيري، ما أدى لاقتلاع النظام الإخواني العتيد، كما لعبت قبل ذلك وتلعب حتى الآن دورًا طليعيًا في مبادرات إنسانية وطوعية يفخر بها كل سوداني، ولكن في الوقت نفسه مكن هذا الانتشار الكثيرين من فقيري المعرفة والقدرات والذوق السليم، من خلال الحسابات التي أنشأوها فيها من نشر الغثاثة والتفاهة والكذب والتلفيق والهبوط بالذوق العام من خلال نشرهم أخبار وكتابات وفيديوهات ومحتويات وأعمال دون ورع كافٍ، تفرض نفسها عليك فرضًا عبر تداولها في المجموعات المختلفة التي يمكن أن تجمعك مع فئات مختلفة من الناس، وينشط كثير من هؤلاء في تزكية أوار الحرب المشتعلة حاليًا ويعملون على تغذية الغرائز البدائية، ونشر خطابات الكراهية بين أبناء الوطن الواحد.. بل إن كثيرًا من هؤلاء صاروا نجومًا تحصد حساباتهم وصفحاتهم ملايين المتابعين والمعجبين.. على ماذا؟.. لم أجد إجابة لهذا السؤال حتى الآن وربما أسعفنا المفكر الكندي آلان دونو بإجابة إذا ما عدنا إلى كتابه (عصر التفاهة)!
هذا في المستوى البسيط، أما المستوى الأخطر فيمكن لمن يمتلكون ناصية المعرفة التقنية الدقيقة ولكنهم يفتقرون إلى الأخلاق، وتحركهم نوازع الشر ومقتضيات التربح الاقتصادي دون وازع أو ضابط من صنع كوارث كبرى في هذا العالم تصل إلى تهديد الحياة فيه.
وقبل سنوات وفى مقابلة أجراها معه توماس فريدمان بنيويورك تايمز، عبّر مدير شركة قوقل بالشرق الأوسط وقتها المدون المصري وائل غنيم الذي أطلق ثورة يناير في بلاده، وتمكنت من الإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك عن أسفه العميق لحالة الانفلات والخراب والانقسام المجتمعي في مصر بعد الثورة. وفي بريطانيا قبل التصويت على استفتاء خروجها من الاتحاد الأوروبي (بركسيت) كشفت الدراسات واستطلاعات الرأي عن الدور الأساسي الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في حالة الانقسام الخطيرة في المجتمع البريطاني. وتكثر الآن الدراسات والمقالات في مراكز الأبحاث والدوريات الأمريكية التي تعزي حالة التردي العام التي أعادت أفكارًا وقيمًا متخلفة تجاوزها المجتمع الأمريكي قبل أكثر من قرن وانتشارها السرطاني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان نتيجة ذلك أن وصل إلى الرئاسة للمرة الثانية شخصية مثل دونالد ترامب .
فى جانب آخر فإن نعمة التطور التكنولوجي منذ بدء الثورة الصناعية في القرن السابع عشر مرورًا بثورة الاتصالات والمعلومات، وحتى بلوغنا عصر الانفجار الرقمي حاليًا، سهّلت الحياة وراكمت الإنتاج كثيرًا، ويمكن أن نقول أوجدت رهافة في الحس الإنساني وخلقت قيمًا عالمية مشتركة عند أغلبية سكان الكوكب.
ولعل ذلك ما جعل ديميس هاسابيس، رئيس شركة “ديب مايند” التابعة لقوقل والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء العام الماضي أن يقول بثقة في مقابلة مع صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت مؤخرًا: “إن الثورة القادمة في الذكاء الاصطناعي قد تكون أعظم بعشر مرات من الثورة الصناعية، وربما أسرع منها أيضًا”.
ولكن الثورة الصناعية والتطور التكنولوجى والثورة الرقمية ورغم كل ما ذكرناه عنها من إيجابيات إلا أنها لم تسعد البشرية وتجنب السواد الأعظم منها الويلات والشقاء أو تحقق السلام على ظهر هذا الكوكب الحائر الحزين، وذلك بسبب تحكم قلة قليلة من الناس في العالم في مصادرها وسعيهم الحثيث من خلالها لمراكمة الأرباح بكل سبيل.. ومع معضلة غياب الأخلاق المضطردة واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان وعلى المستويات كافة تعمل المجامع الصناعية العسكرية في العالم على توظيف كل منجزات التطور لخدمة الحرب ومن ثم إثراء أباطرة التكنولوجيا.. هذا الأمر دفع هاسابيس إلى الاستدراك على رؤاه المتفائلة بقوله في المقابلة ذاتها: “إن هذا التطور، إذا أُدير بأمان، قد يدخل البشرية في عصر “الوفرة الجذرية” – حيث تتوفر المعرفة، والرعاية الصحية، والطاقة، والموارد بمستويات غير مسبوقة. لكنه يضيف: “السؤال الأهم هو: هل ستتوزع هذه الوفرة بعدالة؟”.
ما الذي يجعلنا متفائلين هذه المرة أن الطفرة والنعمة التكنولوجية الحالية يمكن أن توظف لإخراج السواد الأعظم من الناس من الشقاء، وتوزع بعدالة ومن ثم تجلب السلام على هذا ظهر هذا الكوكب؟
الإحصاءات والأرقام في كل المجالات إلى جانب الأخبار اليومية لا تبعث على التفاؤل، فآخر تقارير معهد ستوكهولم للسلام حذر بشدة من أن السباق والتهديد النووي حاليًا تجاوز ما كان عليه في حقبة الحرب الباردة، بينما حددت مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة 60 شركة عالمية كبرى باعتبارها شريكة في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، وذلك في تقريرها الجريء والشجاع (تجار الموت) الذي صدر في شهر يوليو الماضي وأدى إلى غضبة أمريكية إسرائيلية مضرية عليها ولكنها لم تبال.. وفي الوقت نفسه تعمل القوى الكبرى على تقويض آليات العدالة الدولية لتتماشى مع مصالحها. وفى أثناء كتابة هذه السطور قرأت في نشرة مجلة بوليتيكو للأمن القومي NatSec Daily أن كبار قادة البنتاغون بالتعاون مع مراكز الأبحاث المتخصصة يتدارسون كيفية إدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة في خطط الحرب المستقبلية. بينما قالت منظمة أوكسفام في يوليو الماضى أن “4 أثرياء في أفريقيا يمتلكون أكثر مما يمتلكه نصف سكان القارة السمراء”!
كل ذلك يشير إلى أنه رغم التطور العلمي والتقني الهائل الذي لم يسبق له مثيل خلال مسيرة التطور البشري إلا أن معضلة غياب الأخلاق لا تزال قائمة؟ وهي المعضلة التي نبه لها الأستاذ محمود محمد طه باكرًا في السودان ومنذ مطالع الخمسينيات من أن البشرية في ظل التطور التكنولوجي الذي خلق منها مجتمعًا واحدًا متقاربًا ومتشابكًا في مصالحه ومستقبله تحتاج إلى تطور أخلاقي موازٍ تشفع به تطورها المادي حتى تتمكن من العيش في سلام.
ورغم الواقع المظلم ولكن الأمل دائمًا موجود سواء بالتدخل المباشر للسماء أو غير المباشر، ففي غمرة التطور المضطرد الناجم عن اندفاع قوى الرأسمال لمراكمة أرباحه يخلق في المقابل عن ذلك التطور التكنولوجي والمعرفي تقاربًا قيميًا وشعوريًا بين مستهلكي التكنولوجيا في أنحاء العالم المختلفة، وينتج عن ذلك وعيًا مشتركًا سيؤدى مع الوقت إلى وحدة وقوة يمكنها كسر الحصار المفروض على تطور الإنسانية ومنعها من السير في طريق مصيرها المشترك. مصير السلام والمحبة وكسر الأغلال .
@~adel ahim