رقص على رؤوس الموتى “الرباعية”.. أو التصنيف كمجموعة إرهابية

 

عثمان فضل الله

وجدت الحركة الإسلامية السودانية نفسها وحيدة، تقاوم مدّ السلام العاتي القادم من وراء البحار. بيان الرباعية هبط على المشهد كالصاعقة، يشخص الأزمة بجرأة غير معهودة، يضع موجهات عامة للحل، ويحدد 27 سبتمبر موعدًا لبدء وضع التفاصيل. ما إن صدر البيان حتى سارع التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة، المعروف بـ”صمود”، إلى الترحيب والمساندة، لتتوالى بعدها المواقف المؤيدة: حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل، ثم تحالف “تأسيس”، وأخيرًا الكتلة الديمقراطية – التي ظلت منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 تميل إلى دعم الجيش. في لحظة نادرة بدا أن الطيف السياسي، المنقسم والمصطرع منذ سنوات، يجد نقطة التقاء حول خطوة “الرباعية”.

دوليًا، لا شك أن هذه المبادرة رسمت خارطة طريق واضحة لإنهاء نزاع بات يشكل صداعًا مستدامًا وضغطًا أخلاقيًا على العواصم الكبرى. لم يعد ممكنًا الاكتفاء بمسكنات سياسية بينما الخرطوم والجزيرة ودارفور تشتعل كل يوم، وفي ظل تحولات إقليمية ودولية قلبت موازين المنطقة رأسًا على عقب: إسرائيل تقصف العواصم العربية والإسلامية بلا هوادة، حزب الله يتراجع في لبنان، حماس تنزف في غزة، وثورة الملالي في إيران تواجه تحديات وجودية. في هذا السياق المضطرب، صار السودان الحلقة الأضعف التي يخشى المجتمع الدولي أن تنفجر في وجه الجميع.

ولفهم هذه اللحظة، لا بد من العودة إلى ما جرى في الشهور الماضية في عواصم ثلاث: كيب تاون، نيروبي، وأبوظبي. خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن ضجيج الإعلام، دارت مشاورات كثيفة تتصل جميعها بخيط واحد: كيف نوقف النزيف السوداني؟

في جنوب أفريقيا، الدولة التي تربطها بالسودان علاقات تاريخية منذ أيام مانديلا، لم تكن حكومة سيريل رامافوزا راضية عن طريقة مفوضية الاتحاد الإفريقي في إدارة الأزمة. لذلك بادر رامافوزا في يناير الماضي إلى عقد اجتماع مطول مع وفد من “صمود” برئاسة د. عبد الله حمدوك، انتهى بتوافق على ضرورة أن تلعب جنوب أفريقيا دورًا مباشرًا في ملف السودان. لم يكتف رامافوزا بذلك؛ فقد التقى لاحقًا الرئيس السابق ثامبو أمبيكي، مهندس الوساطات الإفريقية، وناقشا باستفاضة دور بلاده في وقف الحرب.

دعوة أمبيكي أثمرت عن اجتماع موسع في يوليو الماضي، جمع نخبة من الشخصيات الدولية التي خبرت الملف السوداني: هيلدا جونسون – السياسية النرويجية وممثلة أصدقاء إيقاد في مفاوضات نيفاشا، روزاليند ماري مارسدن – سفيرة الاتحاد الأوروبي السابقة في الخرطوم، عدد من موظفي مكتب المبعوث الأمريكي الأسبق جون دانفورث، ودبلوماسيين غربيين مخضرمين. من السودان، شارك رموز وطنية بارزة، إلى جانب رئيسي جنوب أفريقيا ونيجيريا السابقين، أمبيكي ومحمد بخاري.

العودة إلى أفريقيا

وبحسب مصدر سياسي رفيع تحدثنا إليه أن الاجتماع لم يكن بروتوكوليًا، بل أشبه بمختبر سياسي عميق، ناقش الأوضاع الميدانية بندًا بندًا، وخرج بخلاصة حاسمة: جوهر الأزمة هو محاولة الإسلاميين استعادة السلطة المفقودة، وأن أي عملية سلام تتجاهل هذا البعد ستظل ناقصة. قرر المجتمعون إطلاق حملة اتصالات مع عواصم القرار الدولية لتوحيد الموقف إزاء ما وصفوه بـ”الخطر الذي تمثله القوى المتطرفة على مستقبل الدولة السودانية.”

وفي نيروبي، بدأت دائرة جديدة من المشاورات التي أعادت طرح دور المؤسسات الإقليمية من زاوية نقدية. شعر الاتحاد الإفريقي بعزلة متزايدة بعد أن كانت سياسات ممثله الخاص ورئيس مكتب الاتصال في الخرطوم، السفير محمد بلعيش، تبدو متماهية مع مواقف بورتسودان، فأدت إلى اتهامات صريحة بانحياز الاتحاد لطرف على حساب حياد الوساطة. أدت هذه الاتهامات إلى تراجع ثقة بعض العواصم في قدرة الاتحاد على لعب دور الوسيط النزيه.

طلب الاتحاد اجتماعًا مع قيادة “صمود” في نيروبي، لكن الاجتماع بدا مشحونًا منذ البدء: قرر التحالف تخفيض مستوى تمثيله، كرسالة احتجاج واضحة على أداء الاتحاد. ثلاثة مصادر متطابقة وصفت اللقاء بأنه أشبه بجلسة محاكمة حيث واجه وفد “صمود” وفد الاتحاد بجملة من التحفظات، واعتبر أن تدخله صبّ وقودًا على نار الصراع بدل أن يطفئها. وسلّم التحالف مذكرة مكتوبة تضمنت بنودًا توضح مكان الخلل وتطالب بموقف أكثر حيادًا وفعالية.

عرض وفد الاتحاد خطة “الوجبة الثانية” من الحوار السوداني–السوداني، التي تقترح عقد لقاءات مباشرة بين “صمود” والكتلة الديمقراطية، لكن التحالف ردّ بأن الواقع على الأرض قد تغيّر جذريًا وأن أي مقاربة لا تراعي هذه المتغيرات ستسهم في ترسيخ مؤشرات التقسيم. عاد وفد الاتحاد إلى أديس أبابا ثم عاد طالبًا لقاءً جديدًا، وفيه التقى ممثلوه بالأمين العام لـ”صمود”، الذي شدد على أن الاستمرارية في تجاهل أطراف أساسية من شأنها إخضاع أي مبادرة للفشل.

اعترف الاتحاد الإفريقي في ذلك اللقاء بأنه ارتكب أخطاء جسيمة تطلبت تصحيحًا فوريًا إن أراد أن يستعيد ثقة الفرقاء. ووعد ببذل الجهد اللازم لإنجاح الجولة المقررة في السابع من أكتوبر، مع محاولة تليين تحفظات الكتلة الديمقراطية على الجلوس مع “تأسيس”، والعمل على توسيع قاعدة المشاركة.

خارطة طريق

وبالمقابل، كانت أبوظبي – التي يغطيها غبار التصريحات النارية والإجراءات الدبلوماسية – مسرحًا لفصل آخر من التحركات الخفية. هنا، في أروقة هادئة بعيدة عن ضوضاء الإعلام، اجتمع فريق من ضباط الاستخبارات وخبراء السياسة ودبلوماسيين رفيعي المستوى لتشريح الأزمة السودانية بندًا بندًا، والعمل على إنتاج مقاربات جديدة للحل. تحولت العاصمة الإماراتية إلى مقر شبه دائم لفرق “الرباعية” الدولية، التي عملت أولاً على تجسير الهوة بين الرياض وأبوظبي والقاهرة، في أعقاب زيارة القائد العام للقوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان إلى جنيف ولقائه مبعوث الرئيس الأمريكي مسعد بولس، حيث منح الأخير الضوء الأخضر لواشنطن للمضي قدمًا في مساعي حلحلة الصراع.

المصادر التي تحدثنا إليها أكدت أن فرق الرباعية كانت في حالة انعقاد شبه دائم، تدير رحلات مكوكية بين العواصم الثلاث وبعض عواصم الإقليم، وتلتقي بقيادات سياسية ومدنية وخبراء في الملف السوداني. يقول دبلوماسي غربي رفيع: “لم يكن الأمر سهلاً. احتاج عشرات الاتصالات وعقد عشرات اللقاءات المكثفة، لكننا في النهاية نجحنا في صياغة أرضية مشتركة”.

هذه الأرضية المشتركة وضعت نقاط الاتفاق في مقدمة الأولويات: وحدة السودان أرضًا وشعبًا، الإسراع في حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية، إبعاد العناصر المتطرفة، وقطع الطريق أمام أي محاولة لعودة التيار الإسلامي المتشدد إلى السلطة، باعتباره تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والدولي. أما نقاط الخلاف فتمثلت في مسألة الدعم الخارجي لأطراف الحرب، والموقف من الجيش وقوات الدعم السريع ودورهما في فترة ما بعد الحرب، وهي ملفات احتاجت على ما يبدو لنقاشات على مستوى قيادة الدول الثلاث وهو ما تم بالفعل.

الاجتماعات في كيب تاون ونيروبي وأبوظبي  لم تكن مجرد لقاءات دبلوماسية روتينية، بل كانت محطات لتشكيل شبكة ضغط دولية وإقليمية هدفت إلى إلغاء منطق الإقحام الاحادي وإيجاد صيغة توافقية تضمن عدم انزلاق السودان نحو تفكك إقليمي. الخلاصة التي خرجت بها هذه الجهود دفعت الرباعية إلى إصدار بيانها الحازم؛ بيان لم يأتِ من فراغ بل من تراكم قلق دولي وإقليمي تجاه مستقبل بلد قد يتحول إلى ساحة مفتوحة للصراعات بالوكالة.

الكرة الآن في ملعب الجميع: الرباعية، القوى السياسية السودانية، والتيار الإسلامي الذي يرفض أن يُقصى. كل طرف مطالب بأن يختار بين الرقص على رؤوس الموتى أو مدّ اليد نحو تسوية تاريخية تنقذ ما تبقى من الدولة. نجاح المسعى الدولي مرهون بقدرة الوسطاء على تقديم ضمانات حقيقية، وإقناع الأطراف بأن المشاركة ليست استسلامًا بل شرطيّة للحفاظ على مجتمع وسلامة دولة.

هذه الجهود – وإن ظلت بعيدة عن الأضواء – هي التي مهدت الطريق لبيان الرباعية الأخير، الذي لم يأتِ من فراغ بل كان نتيجة أشهر من صياغة المواقف في كيب تاون ونيروبي وأبوظبي. اليوم، تقف الرباعية أمام امتحان عسير: إما أن تنجح في تحويل هذه الرؤية إلى مسار سياسي فعّال يوقف نزيف الدم، أو أن تتجه الأمور نحو سيناريوهات أكثر قتامة، حيث تُدفع البلاد إلى حافة الانهيار الكامل، وتتحول الحرب إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.

طرق وعر

ويجمع كل من تحدثنا إليهم بأن بيان الرباعية الدولية وضع الحرب السودانية في واجهة الاهتمام الدبلوماسي، كما أسلفنا أن البيان لم يكن عاديًا؛ إذ خرج بعد مشاورات مطوّلة بين الدول الأربع، والعديد من الفاعلين في المشهد وجاء بلغة حازمة توحي بأن العالم ضاق ذرعًا بحرب الخرطوم. لكنه في الوقت نفسه كشف عن وعورة الطريق، وعن حجم القوى التي ستقاوم أي ترتيب سياسي لا يضمن لها موطئ قدم في مستقبل البلاد، وعلى رأسها التيار الإسلامي العريض.

ما ميّز البيان هذه المرة هو جمعه لأكبر فواعل الإقليم المؤثرة في الحرب السودانية إلى طاولة واحدة، في لحظة نادرة منذ اندلاع القتال في أبريل 2023. بدا وكأنه يعيد الحياة لمفهوم “الضغط الجماعي” القادر على فرض هدنة، أو على الأقل جعل كلفة التعطيل باهظة.

وزاد البيان قوةً أنه حدد لأول مرة جداول زمنية واضحة: هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، يليها وقف دائم لإطلاق النار، ثم عملية انتقالية شاملة خلال تسعة أشهر. هذه الجداول تمنح المجتمع الدولي معيارًا لقياس التقدم، وتجعل الالتزامات السياسية قابلة للمساءلة. كما لم يغفل البعد الإنساني، إذ نصّ على وصول المساعدات دون عوائق، وحماية المدنيين، ووقف الهجمات على البنى التحتية.

آليات غائبة 

لكن صلابة البيان لا تحجب هشاشته؛ فغياب آليات واضحة للمراقبة أو العقوبات يهدد بجعل الاتفاق حبرًا على ورق، كما حدث مع اتفاق جدة. الأخطر أن لهجته تجاه جماعة الإخوان وما وصفه بـ”العناصر المتطرفة” قد تُقرأ كإعلان حرب سياسية على الإسلاميين، الذين ما زالوا يحتفظون بنفوذ واسع داخل الجيش وأجهزة الدولة. هذا الشعور بالإقصاء قد يدفعهم لتخريب أي تسوية، أو إعادة تنظيم صفوفهم ميدانياً.

خاصة ان الحركة الإسلامية بقيادة علي كرتي وصفت البيان بأنه “تدخل سافر ومحاولة فرض حلول خارجية”، بينما هاجم أحمد هارون تسوية “تساوي بين الجيش والميليشيات” على حد وصفه. أما حركة العدل والمساواة فحاولت التمايز عن النظام السابق، لكنها رأت في العقوبات الأمريكية استهدافاً غير عادل. هذه الردود ليست مجرد تصريحات غاضبة؛ بل رسائل مشفرة إلى بورتسودان، تفيد بأن أي حل يتجاوز الإسلاميين لن يمر دون مقاومة.

وسط هذا اللهيب الدبلوماسي يقف القائد العام للقوات المسلحة عند مفترق طرق من جهة هو من أعطى الوعود والضوء الأخضر بالسير في هذا الاتجاه ومن جهة مدى مقدرته الالتزام بوعوده والايقاء بها، مصادر دبلوماسية رفيعة تحدثت إلينا أكدت أن “الحقيقة الواضحة أنه لا حل سياسي إلا على رقاب الإسلاميين”. فبيان الرباعية يستهدف قبل كل شيء وقف الحرب عبر تحييدهم. هنا تكمن ورطة البرهان: رفضه يعني خسارة القاهرة والرياض، وهو ما يعادل خسارة كل حلفائه تقريبًا، أما قبوله فسيضعه في مواجهة الإسلاميين الذين كانوا يومًا حاضنته السياسية والعسكرية، أما الحركة الإسلامية فهي أمام خيارات محدودة جدًا، وهي الانزواء طوعًا أو قسرًا عليها أن تختار بين الأمرين بعد أن دفعت في هذه الحرب ثمنًا باهظًا، ولكنها أخطأت التقدير.

 

Exit mobile version