خريطة طريق جديدة أم تكرار للأخطاء؟ قراءة في البيان المشترك حول السودان
محمد عمر شمينا
في الأيام الأخيرة عاد السودان إلى واجهة الاهتمام الدولي بعد البيان المشترك الذي صدر عن الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وحمل ما يشبه خريطة طريق جديدة لوقف الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين. البيان اقترح هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، تليها ترتيبات لوقف دائم لإطلاق النار، ثم مرحلة انتقالية مدتها تسعة أشهر تؤدي إلى تشكيل حكومة مدنية. هذه الصيغة تعكس إدراك الأطراف الدولية أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وأن استمرارها لا يحمل أي أفق سوى المزيد من الدماء والانهيار. لكنها في الوقت ذاته تثير أسئلة عميقة حول جدوى مثل هذه المبادرات، وحول موقع السودانيين أنفسهم في عملية صنع السلام.
من الناحية السياسية، يمكن قراءة البيان في إطار التوازنات الإقليمية والدولية. فالمحور الذي صاغه يجمع بين دول ذات مصالح متباينة في السودان، لكنها تلتقي عند نقطة أساسية هي منع الانهيار الكامل الذي قد يحول السودان إلى بؤرة فوضى يصعب السيطرة عليها. الولايات المتحدة تريد أن تظهر بمظهر الوسيط القادر على تحريك المياه الراكدة بعد أن تراجع نفوذها في المنطقة، بينما تسعى السعودية والإمارات لتقليص نفوذ قوى الإسلام السياسي، وضمان عدم تحول الحرب السودانية إلى مصدر تهديد مباشر لاستقرار الخليج. أما مصر، فهي تنظر إلى السودان باعتباره عمقًا استراتيجيًا لا يمكن السماح بسقوطه في يد قوى غير صديقة، سواء كانت مليشيات مسلحة أو جماعات عابرة للحدود.
هنا يبرز ملف الإسلاميين كعنصر محوري. البيان أشار صراحةً إلى استبعاد (الجماعات المتطرفة المرتبطة بالإخوان المسلمين) من مستقبل الحكم في السودان. هذه الإشارة ليست عفوية، بل تعكس مخاوف حقيقية عند بعض العواصم، خاصة الرياض وأبوظبي، من أن الحرب قد تفتح الباب لعودة الإسلاميين الذين أُزيحوا بعد سقوط نظام البشير، لكنهم ظلوا قوة كامنة قادرة على التحرك في لحظات الفراغ. بالنسبة لهذه الدول، الخطر لا يقتصر على الداخل السوداني، بل يمتد إلى أمن الخليج والبحر الأحمر، حيث يمكن لأي تمدد إسلامي أن يعيد إنتاج تجارب مريرة من عدم الاستقرار. لكن في المقابل، إقصاء الإسلاميين بقرار خارجي قد يعقد المشهد أكثر، لأنه يغذي سردية المظلومية ويدفع بعض التيارات للبحث عن تحالفات جديدة، وربما أكثر راديكالية.
أما النقطة الثانية التي شدد عليها البيان فهي أمن البحر الأحمر. هذا الملف بدا كأنه جزء أساسي من أجندة الأطراف، ربما بنفس مستوى الحديث عن وقف إطلاق النار. البحر الأحمر ليس مجرد معبر مائي للسودان، بل هو شريان حيوي للتجارة العالمية يمر عبره حوالي 12% من حركة التجارة الدولية. وجود حرب على ضفافه، وميليشيات مسلحة تتحكم في موانئ أو ممرات، يعني تهديدًا مباشرًا لمصالح دولية كبرى. لذلك، فإن التركيز على البحر الأحمر يعكس أن الدول الأربع لا ترى السودان فقط من زاوية أزمته الداخلية، بل من موقعه الجغرافي الذي يجعل استقراره أو فوضاه قضية أمن دولي بامتياز.
لكن التجربة السودانية الطويلة مع مثل هذه المبادرات تجعل من المشروع التساؤل عن مدى جديتها. فالسودان عرف عشرات الاتفاقات منذ الاستقلال، من اتفاقية أديس أبابا في السبعينيات إلى اتفاقية السلام الشامل التي مهدت لانفصال الجنوب، وصولًا إلى الوثيقة الدستورية بعد ثورة ديسمبر. وفي كل مرة كانت الاتفاقات تنهار لأنها لم تعالج جذور الأزمة، بل اكتفت بترتيبات سطحية لتقاسم السلطة بين النخب العسكرية والسياسية. هذه المرة، يبدو أن الخريطة الجديدة تكرر ذات النمط، فهي تركز على وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة انتقالية، من دون أن تقدم رؤية شاملة لمعالجة قضايا الهوية، وبنية الدولة، وعدالة توزيع السلطة والثروة.
من الناحية الإنسانية، الحرب في السودان لم تعد مجرد صراع على السلطة، بل تحولت إلى مأساة كبرى يعيشها الملايين يوميًا. القصف العشوائي، النزوح الجماعي، الجوع والأوبئة، كلها جعلت السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم اليوم. هدنة الثلاثة أشهر التي يقترحها البيان يمكن أن تفتح نافذة صغيرة لوصول المساعدات، لكنها في ذاتها لا تكفي إذا لم تتبعها خطوات جادة تضمن حماية المدنيين ووقف استهدافهم. فقد خبر السودانيون من قبل اتفاقات وقف إطلاق النار التي لا تصمد سوى أيام قليلة قبل أن تنهار تحت وقع المعارك.
المشهد هنا يعيد إلى الأذهان تجارب أخرى عانت فيها الشعوب من الحروب الطويلة. تجربة البوسنة والهرسك مثلًا أظهرت أن التدخل الدولي يمكن أن يوقف الحرب لكنه قد يترك بلدًا ممزقًا طائفيًا وعرقيًا. وتجربة جنوب السودان توضح أن الاتفاقات التي لا تعالج جذور الأزمة، ولا تضع إطارًا متماسكًا لبناء الدولة، تنتهي إلى إعادة إنتاج الصراع بأشكال جديدة. السودان اليوم يقف أمام خطر مشابه، أن يتحول الاتفاق إلى مجرد هدنة تتيح للأطراف إعادة ترتيب صفوفهما، بدلًا من أن تكون بداية حقيقية لبناء دولة تتسع للجميع.
البعد الآخر الذي لا يمكن إغفاله هو غياب صوت السودانيين أنفسهم في مثل هذه الترتيبات. البيان صيغ بلغة تعكس مصالح الدول الراعية أكثر مما تعكس تطلعات الشعب السوداني. صحيح أن وقف الحرب ضرورة عاجلة، لكن ما لم يكن هناك مسار وطني جامع يضع السودانيين في قلب عملية السلام، فإن أي اتفاق يظل معرضًا للفشل. فالقضية في جوهرها ليست مجرد تنافس بين الجيش والدعم السريع، بل هي أزمة تاريخية ممتدة تتعلق بطبيعة الدولة السودانية وعلاقتها بمواطنيها.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن البيان يمثل فرصة، حتى لو كانت محدودة. فهو يضع الحرب مرة أخرى تحت أنظار العالم، ويعيد فتح باب النقاش حول مستقبل السودان. المسؤولية الكبرى تقع الآن على القوى المدنية السودانية التي ينبغي أن تستغل هذه اللحظة للضغط من أجل مسار مختلف، مسار يضمن مشاركة حقيقية للضحايا والمجتمعات المحلية، ويضع الأسس لبناء دولة حكم القانون ومؤسساته. فالتجربة أثبتت أن ترك مصير السودان للفاعلين العسكريين وحدهم لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الاستبداد والعنف.
إصدار البيان في هذا التوقيت ليس صدفة. فالوضع الميداني بلغ مرحلة استنزاف قاسية لكلا الطرفين، والسودان يعيش تحت تهديد الانهيار الكامل للبنية التحتية، بينما الكارثة الإنسانية تجاوزت حدود السودان لتضغط على الجوار مباشرة، سواء عبر موجات النزوح أو تهريب السلاح أو تهديد أمن البحر الأحمر نفسه. كذلك، يتزامن البيان مع تصاعد الضغوط الدولية على واشنطن للتحرك بعد أن تركت الساحة لفاعلين آخرين كروسيا وتركيا، مما جعل المبادرة ضرورة لإثبات حضورها في ملف شديد الحساسية. بمعنى آخر، جاء البيان كاستجابة لمزيج من عوامل الميدان، والأزمة الإنسانية، والحسابات الجيوسياسية.
أخيرًا، يمكن القول إن البيان المشترك هو انعكاس لقلق دولي متزايد من تفكك السودان، لكنه يظل أداة محدودة ما لم يتكامل مع رؤية سودانية شاملة. السلام الحقيقي لن يأتي من عواصم الخارج وحدها، بل من قدرة السودانيين على صياغة مشروع وطني جديد يضع الإنسان في قلبه. وبينما ينتظر الملايين وقفًا للرصاص يتيح لهم مجرد البقاء على قيد الحياة، تبقى المهمة الأصعب هي تحويل هذه الهدنة إلى بداية طريق طويل نحو دولة عادلة وآمنة.