عقوبات واشنطن صفعة جديدة للإسلامويين وهزة لحكومة بورتسودان

حيدر المكاشفي

في خطوة جديدة تكشف عن تعقد الموقف الدولي تجاه الحرب السودانية، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على كتيبة البراء، إحدى أبرز الوحدات العسكرية المرتبطة بالإسلامويين، وعلى جبريل إبراهيم وزير المالية في حكومة بورتسودان وزعيم حركة العدل والمساواة. هذا الإجراء يعكس تحولًا في كيفية تعاطي واشنطن مع أطراف الحرب، وانتقالها من المواقف العامة الداعية لوقف إطلاق النار إلى سياسات الاستهداف المباشر لقوى فاعلة متهمة بتمويل وإدارة الصراع. فهذه العقوبات لم تكن مفاجئة تمامًا، لكنها جاءت في توقيت بالغ الحساسية، لتضيف طبقة جديدة من الضغوط على الحكومة القائمة في بورتسودان وعلى التيار الإسلاموي الذي يسعى لاستعادة نفوذه عبر الحرب الجارية. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش وربيبته قوات الدعم السريع، ظل المشهد السوداني يتسم بتعقيد شديد وتداخل مصالح محلية وإقليمية ودولية. فقد برز الإسلامويون كأحد أهم الأطراف المستفيدة من طول أمد الحرب، حيث أعادوا تنظيم صفوفهم عسكريًا عبر كتائب على رأسها البراء وسياسيًا عبر تحالفات داخل حكومة بورتسودان. وعلى الصعيد الدولي، اتسمت المقاربة الأمريكية بالتدرج من بيانات قلق، ضغوط دبلوماسية، عقوبات محدودة على شركات، وصولًا إلى استهداف شخصيات بارزة وكتائب عسكرية.

فوفقًا للبيان الأمريكي، شملت العقوبات المفروضة على كتيبة البراء، تجميد أي أصول مالية أو ممتلكات محتملة تابعة لها في الولايات المتحدة أو ضمن النظام المالي العالمي المرتبط بالدولار، منع أي تعاملات تجارية أو لوجستية معها أو مع الجهات المرتبطة بها. توصيفها كقوة متورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وارتكاب أعمال عنف ممنهج ضد المدنيين. أما العقوبات المفروضة على جبريل إبراهيم، فقد نصت على إدراجه شخصيًا في قائمة العقوبات  (SDN List)، بما يعني تجميد أمواله وأصوله وحظر تعامل الشركات أو الأفراد الأمريكيين معه. توصيفه كشخص مسؤول عن تسهيل صفقات مالية ولوجستية لدعم المجهود الحربي، وتورطه في تحويل موارد الدولة بوصفه وزير المالية لخدمة آلة الحرب. اتهامه بتغذية الفساد المالي، وتسهيل وصول الموارد إلى جماعات مسلحة متهمة بانتهاكات واسعة. 

من المعلوم بالبداهة أن كتيبة البراء تعد واحدة من أبرز تشكيلات التيار الإسلاموي العسكري، وهي وحدة مقاتلة مرتبطة أيديولوجيًا بالتنظيمات الإسلاموية التي ازدهرت في عهد الإنقاذ. والمآخذ الأساسية عليها من منظور المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية وقوى السلام ومناهضة الحرب، أنها متورطة في جرائم حرب باستخدامها العنف ضد المدنيين وارتكاب انتهاكات في مناطق النزاع، وارتباطها بالحركة الإسلاموية السودانية كونها جزءًا من المشروع العسكري للإسلامويين لإعادة فرض سيطرتهم على الدولة عبر الحرب، وضلوعها في عرقلة جهود السلام بالاستمرار في خوض المعارك بدلًا من الانخراط في أي مسار تفاوضي.. أما جبريل إبراهيم كما هو معلوم عنه أنه دخل المشهد الحكومي وبالتالي الدولي من بوابة مغايرة. فبينما كان ينظر إليه في فترة ما كقائد حركة مسلحة انخرط في اتفاق جوبا للسلام، صار الآن مسؤولًا عن تسخير وزارة المالية لتمويل الحرب، سواء عبر الإيرادات الجمركية، الضرائب، أو عبر قنوات موازية، ومتواطئا في الفساد المالي والإداري، حيث يتهم بتحويل موارد الدولة لتقوية نفوذه السياسي والعسكري. متناقضًا مع التزاماته السابقة بالسلام والديمقراطية، بعد أن أصبح جزءًا من منظومة الإسلامويين التي تدير الحرب من بورتسودان.

هذه العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على كتيبة البراء وجبريل إبراهيم لها بالقطع دلالات وأبعاد سياسية وتحمل رسائل واضحة إلى حكومة بورتسودان، فواشنطن ترى أن الحكومة الحالية متورطة بعمق في تمويل الحرب وإدارتها عبر الإسلامويين وحلفائهم. ويجيء استهداف وزير المالية أحد أعمدتها ضربة مباشرة لمشروعها السياسي. والرسالة الأوضح إلى الإسلامويين السودانيين هي أن المجتمع الدولي يتعامل مع عودة الإسلامويين عبر الحرب كأمر غير مقبول، وأن أدواتهم العسكرية والمالية ستكون أهدافًا مباشرة للعقوبات، وأن مشروعهم لإعادة السيطرة على الدولة عبر الحرب لن يمر دون كلفة دولية. وبالمحصلة سيؤدي ذلك إلى زيادة الانقسام داخل معسكر الإسلامويين بين من يرى ضرورة الاستمرار في الحرب ومن يفضل البحث عن مخرج سياسي. وتحمل هذه العقوبات أيضًا رسالة إلى المجتمع الدولي تحوي دعوة أمريكية لحلفائها الأوروبيين والإقليميين لتنسيق عقوبات مماثلة، وتضع دول الجوار في موقف حرج، إذ أن أي تعاون مع الأطراف المعاقبة قد يعرضها لضغوط أو عقوبات ثانوية، وقد تدفع هذه الخطوة بعض الدول إلى إعادة حساباتها في مستوى الدعم أو التساهل مع الإسلامويين أو حكومة بورتسودان. بما يوسع دائرة العزلة على الإسلامويين وحلفائهم في بورتسودان.. وهناك بالطبع تأثيرات اقتصادية وسياسية وعلى الحرب نفسها متوقعة لهذه العقوبات. فالعقوبة التي فرضت على وزير المالية ستضعف قدرة حكومة بورتسودان على جذب أي دعم خارجي أو قروض، إذ ستصبح التعاملات المالية معها محفوفة بالمخاطر، كما أنها من الناحية السياسية ستعمق عزلة حكومة بورتسودان دوليًا، خاصة مع تزايد الضغوط لإقصاء الإسلامويين من أي تسوية مستقبلية، وتكشف هذه التطورات أن حكومة بورتسودان تسير في مسار محفوف بالمخاطر، حيث يضعها المجتمع الدولي في سلة واحدة مع الإسلامويين، بينما تزداد عزلة السودان وتعقد أزمته الإنسانية والسياسية، كما تحمل إشارة واضحة لحكومة بورتسودان بأنها لم تعد تعامل كحكومة شرعية كاملة، بل كطرف متورط في الحرب. والعقوبات على الإسلامويين ستضرب في صميم مشروعهم، لأنها تستهدف الذراع العسكرية (كتيبة البراء) والذراع المالية (جبريل إبراهيم). ومن جهة تأثير هذه العقوبات على الحرب نفسها فإنها قد تزيد من تعقيد المشهد، إذ قد يلجأ الإسلامويون إلى مزيد من التصعيد العسكري لتعويض خسائرهم السياسية. والأهم من كل ذلك أن هذه العقوبات تكشف عن إعادة رسم خريطة التعامل الدولي مع الحرب السودانية. فإذا كانت واشنطن في السابق تتجنب استهداف قادة بعينهم، فهي الآن ترسل إشارة واضحة بأنه لن يكون هناك حصانة لأي طرف يمول الحرب أو يعرقل مسار السلام. وأن صبر المجتمع الدولي من استمرار الحرب وتفاقم الكارثة الإنسانية قد نفد.

وخلاصة القول إن هذه العقوبات تأتي لتضع حكومة بورتسودان في زاوية صعبة وضيقة، وتكشف عن هشاشة التحالف القائم بين العسكريين والإسلامويين. وبينما قد تراها القوى الإسلاموية المحلية ومجموعة حكومة بورتسودان بأنها مجرد مضاغطة سياسية، إلا أن الواقع يقول إنها بداية مسار طويل من العزلة والمساءلة الدولية، قد يعيد تشكيل موازين القوى في السودان.. إن العقوبات الأمريكية على كتيبة البراء وجبريل إبراهيم ليست مجرد خطوة رمزية، بل تمثل منعطفًا في التعاطي الدولي مع الحرب السودانية. فهي تستهدف في آن واحد البنية العسكرية (البراء) والبنية المالية السياسية (جبريل)، بما يعني ضرب المشروع الإسلاموي في عمقه.

 

Exit mobile version