حكاية من بيئتي (11) مسيكتي وفي بيتي
محمد أحمد الفيلابي
ــ “مسكيتي وفي بيتي.. والما عاجبو يقع البحر!”.
قالتها على مسمع من جمهرة أمام مدرسة الحي، حين نقل لها أحدهم (همساً)، أن رئيس اللجنة الشعبية يقود حملة استئصال للمسكيت، وقد قال أنه “حتى المسكيت الفي بيت خالي ما بخليهو”.
أمام هذا التصريح الموغل في الكيد، أعلنت أرملة الخال التحدّي.. “والراجل اليجي يهبش صفقة شجرة في بيتي”.
مضت الأيام دون أن يحدث الصدام الذي ترقبه الناس بشغف زاد من حدته فتح الكتاب السري للقرية، وحكاية العداء السافر بين (ود العباس) وأرملة خاله المخدوع ببيع ثوره وبقرته، و(عود الواطة) تلك المساحة في ورثة الأسرة الزراعية، ذلك مقابل تراكتور جديد، تبين بعد توقيع أوراق الامتلاك أنه يؤول لابن الأخت الذي سافر سراً في اليوم التالي، ولم يعد إلا بعد سنوات. عندها كان المجاهد الذي استحق أن ينصب رئيساً للجنة الشعبية، صوتاً للحكومة، ورئيساً لاتحاد المزارعين بالمحلية. ويقولون إن ما أصاب الخال إثر صدمة الخداع هو ما تسبب في موته العاجل، ويستغفرون الله بعد ذكر الاتهام، ذلك أن (السيد الناظر) نفسه حين سئل عن رأيه في الأمر اكتفى بالاستغفار، ما جعل الجميع يضع الاتهام ضمن الجنايات غير المؤكدة.
عاد (ود العباس) ليجد أن سلطة (السيد الناظر) لم تتضعضع حتى بعد تقاعده، وأن حقد الأرملة المكلومة عليه لم تنقصه أيام الغياب الطويل، ولا المناصب الجديدة التي جعلت من بيته قبلة للمسؤولين الكبار في المنطقة. وتتداول النساء الكلمات الحارقة التي بثتها الأرملة في وجهه يوم أن ماتت أمه (رفيقة عمرها)، وقد جاء إليها باكياً ليعزيها، فأشاحت بوجهها عنه، وتجاهلت يديه الممدودتين، وقالت ما بين الهمس والعلن “دموعك ما بترجّع الماتت غضبانة عليك، الله يغفر ليها، ويهديك”.
ظل إحساس زعامته المنقوصة يطارده أينما حل، رغم أن البعض يلجأون إليه لحل مشكلاتهم المتعلقة بالمحلية واتحاد المزارعين، فقد بات صوته مسموعاً هناك، وهو يعلم أن من يتحلقون حوله أصحاب مصالح لا غير. كالغريب في بلده وبين أهله يبث عيونه لتأتيه بأنباء جلسات أنس (السيد الناظر) العامرة. ومن ذلك أن من يجالسونه في المناسبات العامة لا يساوون عُشر من يزينون حلقة (السيد الناظر).
حاول كثيراً التنقيب في سيرة السيد الناظر ليجد ما يعينه على إبعاده من القرية، عطفاً على نجاحه حين وقف ضد إرادة مكتب تعليم المحلية بتعيينه مسؤولاً عن التعليم، وقيل إن (السيد الناظر) نفسه لم يكن يرغب في ذلك المنصب. وقد اكتفى بممارسة الزراعة في الحواشة التي مُنحت له تقديراً وعرفاناً من أهل القرية التي جاءها قبل سنوات، وقدم لهم عصارة فكره، وخبرته التي تلقاها، حين كان إعداد المعلمين يتم على أيدي التربويين الأفذاذ، حتى يصبح المعلم (كبسولة) تنمية متحركة. يفتي حين يستفتي، ويؤم الناس حين يغيب الإمام الراتب. وقام بفتح فصل لمحو الأمية للكبار، وتطوع في عمليات الإرشاد الزراعي. وعقد قران معظم شباب وشابات الأسرة قبل أن يتم تعيين مأذون الوحدة الإدارية. وفي كل الجلسات المنظمة وغير المنظمة، كان يدس المعلومات والمفاهيم في أنسه، وحكاياته المحببة. ولم يشكو منه أحد، لا تلميذ في المدرسة، ولا والد تلميذ. وهو الذي ساهم في تطوير المدرسة، عندما أصبح مديراً قام بجلب خيرة المعلمين، ومن بين من قام بتدريسهم، اختار مجموعة ليكونوا معلمين ومعلمات، بعد أن ساعد أهل القرية في فصل البنين عن البنات حين تكاثرت أعداد الملتحقين بالتعليم في الفصول الدنيا نسبة لزيادة عدد السكان، وتفضيل أهل القرى المجاورة تسجيل أبنائهم وبناتهم بالمدرسة ذات السمعة الطيبة.
أحبوه، وزوجوه من بناتهم، وظلوا يرفضون نقله، ويشكلون في كل مرة وفداً إلى المجلس البلدي – وقتها، ليطالبوا بإلغاء النقل. بل حتى أيام الغياب القسري لتلقي جرعات التدريب والتأهيل أثناء الخدمة كانوا يرونها طويلة.
مضت الأيام على حملة إزالة المسكيت دون أن ينفذ (ود العباس) وعيده، وبرّر الأمر بضعف الميزانية وقلّة الكادر العامل، أي أنه لم يكن خوفاً من الأرملة، ولا استجابة لحديث (السيد الناظر)، الذي لم يكن يحتاج ليذكّرهم أن الرمال كادت أن تدخل فصول المدرسة من النوافذ، وفي بعض البيوت في طرف القرية توسّدت الكثبان الرملية المباني، وأنه لولا تلك الحملة، وتضافر جهود أهل القرية لتمدّدت ألسنة الرمل إلى كل الشوارع وإلى المزارع.
في أول أيام الحملة كان خطاب (ود العباس) في المسجد:
“تعرفون أن الخواجات لما جابوا الشجرة الملعونة دي كانوا قاصدين يقتلوا أراضينا، زي ما قتلوا قلوب الجماعة العارفنهم كلنا بي شوية قريشات. وطبعاً ما في زول بباري كلام الكفار إلا… أستغفر الله العظيم..”
بدأ المصلون يتسللون من المسجد وعلى وجوههم ابتسامات السخط. بيد أن بعضهم عاد حين سمع صوت (السيد الناظر) يرد:
ــ هل تعلم يا (ود العباس) أن اللعنة التي تحاول إلصاقها بهذه الشجرة المسكينة، قد تصف بها أعداءها، نعم أخيراً، ويا سبحان الله أكتشف العلماء أن النباتات تتحدث مع بعضها البعض – وخاصةً عن أعدائها الطبيعيين. لما تهاجم حشرة أو حيوان أي نبات، يُنبه النبات المصاب النباتات الأخرى في صمت عشان تفعّل آلية دفاعه. والعلماء سموا الظاهرة ثرثرة النباتات (1). الآن أنت تثرثر عن شجرة المسكيت وتحاول تقول للناس إنها الشجرة الملعونة في القرآن، وده كلام عجيب، وما صحيح على الإطلاق.
بس ممكن تسألني ليه ما استخدمنا أشجار محلية في الحزام شمال المدرسة، وهنا كان ممكن يكون كلامك موضوعي. لكن إنت عارف والناس ديل كلهم عارفين بحكم التجربة عن أشجارنا المحلية نموها بطيء جداً، وما عندها قدرة تمسك كثبان الرملة الزاحفة علينا دي زي ما بعمل المسكيت.
كمان المسكيت ده نبات مرعى وممكن نطحن قرونو ونصنع منها علف غني فيهو نسبة كبيرة من البروتينات. ولو نحن استخدمنا المطحون ده دقيق بنلقاهو صالح للاستخدام البشري، وفي نفس الوقت نقلل من انتشار الشجرة. وعندك الليلة فحم المسكيت حل مشكلة الطاقة لأنو نحن بي إرادتنا أعدمنا الأشجار المحلية، جهلاً أو تجاهلاً لأهمية وجود الأشجار في تحسين الطقس.
ولما نشوف غيرنا بنلقى في كينيا المسكيت بوفر 37 مليون طن فحم، وبحسن سبل معيشة نصف مليون شخص شغالين في صناعة وتجارة فحم المسكيت. يعني باختصار ممكن يتحول المسكيت من مشكلة إلى مورد اقتصادي”. (2)
قاطعه (ود العباس) وقد كان يتملل:
ــ يعني سيادتك بتعترف إنو المسكيت مشكلة؟
ــ الانتشار الزائد وبدون تحكم هو المشكلة، لكن لما نشوف الفوائد بنلقى إنو الإزالة بالشكل ده، وبدون توفير بدائل هي مشكلة أكبر. وطبعاً أي معالجة لأي مشكلة عندها آثار جانبية، حتى الدواء البيوصفو ليك الطبيب عندو آثار جانبية، بس دائماً الآثار الجانبية بتكون أقل ضرراً من المرض نفسو.
انتشر خبر المناظرة كالنار في الهشيم، ولم يبرح عدد من المصلين المسجد، وبعضهم عاد بعد المغادرة، وجاء من لا يدخل المسجد إلا نادراً، وحتى النساء.
علق أحد الحضور:
ــ صدقت يا (السيد الناظر)، أنا كنت بشكي من المسكيت في حواشتي، وبي الطريقة العلمتنا ليها إننا نقلع الشجيرة من عروقنا قبال تكبر من الجداول والتقانت (3) ساعدنا كتير.
ووقف المساعد الطبي ليقول:
ــ كلام (السيد الناظر) عن الآثار الجانبية صحيح مية المية، وعن فوائد المسكيت أنا جاني زول من الحلة دي، وقال انو استخدمو كعلاج لي زوجتو، زي ما النساء الحوامل في الهند بطحنو الزهرة وبخلطوها بي السكر وقاية من الإجهاض، وتقوية لي صحة الأم والجنين. والناس استخدمت رماد المسكيت لي علاج أمراض جلدية، ومسحوق الأوراق لي تطهير الجروح. والعلماء استخلصوا منو مبيد لمعالجة الفطريات البتصيب بعض المحاصيل، ما بخلي وراهو أثر وسموه المستخلص الإيثانولي.
ثم توجّه إلى (ود العباس):
ــ لا أظن أن شجرة فيها كل هذه الفوائد يمكن أن تكون ملعونة.
عندها وجد (ود العباس) أن كل العيون قد صوبت إليه، فقال في صوت منكسر محاولاً إنقاذ نفسه:
ــ عندك إثبات من القرآن والسنة على كلامك ده؟
وظن أنه انتصر، لكن الهجمة المرتدة جاءته من (السيد الناظر)..
ــ وهل عندك إثبات أن المسكيت تحديداً هو الشجرة الملعونة في القرآن؟ والمفسرون قالوا إنها هي شجرة الزقوم الأخروية، والتي كأنها رؤوس الشياطين؟
ــ صح لسانك حضرة الناظر، المسكيت ما ضر غير المزارع الكسلان، وست البيت الخملة.
عرف الجميع صوت الأرملة، وقد وصلت ضمن مجموعات كبيرة من الرجال والنساء ووقفوا خلف النوافذ، لأن صحن المسجد كان قد امتلأ.
تبسّم معظم الحضور، فيما تجهّم (ود العباس) وهتف:
ــ السيد الناظر الناس عندها مشاغل.
لكأنه كان يعلن ختام المناظرة، فأسعفه (السيد الناظر):
ــ أظن وقت العصر دنا، وهناك من يريد أن يذهب إلى زراعته، ومن عنده أشغال أخرى، وناس دايرة تمشي البيت وترجع للصلاة. بس الكلام عن المسكيت ما انتهى.
ونلتقي في حكاية بيئية أخرى.
الهوامش:
(1) هذا ما تناوله أندريه كيسلر أستاذ علم البيئة وعلم الأحياء التطوري بكلية العلوم والآداب جامعة كورنيل الأميركية وفريقه البحثي، خلال دراسة استمرت حوالي 12 عاما، ودرست اتصالات النباتات ببعضها البعض.
(2) مصدر المادة العلمية البروفيسور طلعت دفع الله في عدد من المنشورات على مصفحة بيئتي ومنصات أخرى على الواتساب.
(3) التقنت وتجمع (تقانت) هو الفاصل بين أحواض الزراعة، ولعل المفردة ككثير من مفردات الزراعة من اللغة النوبية.