عائشة حمد لـ”أفق جديد”: “لن نُترك خلف الركام”
النسويات.. صراع نجاة أم مساواة
أي اتفاق سلام بلا النساء لن يحقق العدالة
الحرب أجبرت الحركة النسوية على إعادة صياغة خطابها
أفق جديد
وسط أصوات المدافع ورائحة الدخان، وجوع المخيمات ودموع الناجيات، لم تستسلم الحركة النسوية في السودان لليأس. إذ نشطت العديد من المنظمات النسوية في عمليات المناصرة والحماية، والعمل على كشف وتوثيق الانتهاكات.
تعرضت العديد من النساء إلى المخاطر في سبيل رسالتهن التي أردن إيصالها غير أن ذلك لم يوهن عزيمتهن ولم يفت عضدهن، ولعل من نافلة القول إن المنظمات النسوية خلال هذه الحرب كان لها القدح المعلى في فضح أطرافها وفي كفكفة دموع المتضررين منها.
هذا الحوار نتلمس من خلاله مع مستشارة النوع الاجتماعي في الحكومة الانتقالية المنقلب عليها الناشطة النسوية عائشة حمد محمد، تفاصيل المعركة التي تخوضها النساء ليس فقط للبقاء على قيد الحياة، بل لانتزاع حقهن في العدالة والمشاركة وصياغة مستقبل البلاد. بين التوثيق والمناصرة والعمل الميداني، وبين الانقسامات الداخلية وضغوط الاستقطاب السياسي، تحكي عائشة عن الطريق الشائك الذي سلكته الحركة النسوية، عن خطابها الذي وُلد من رحم الحرب، وعن رؤيتها للمستقبل الذي يجب أن يكون أكثر عدلاً وإنصافًا للنساء وللسودان كله.
النساء والحرب
أكدت مستشارة النوع الاجتماعي في الحكومة الانتقالية السابقة، الأستاذة عائشة حمد محمد، أن الحرب التي اندلعت قبل عامين كشفت عن الدور المحوري الذي لعبته الحركة النسوية في السودان في مجالات الصمود والمقاومة المدنية. وقالت إن الحركة النسوية أثبتت أنها قوة فاعلة رغم التحديات الهائلة التي فرضها النزوح الواسع وانهيار مؤسسات الدولة وشح الموارد، مشيرة إلى أن المجموعات النسوية كانت في الصفوف الأولى للاستجابة الإنسانية منذ الأيام الأولى للصراع.
وأضافت أن هذه المجموعات عملت على تقديم المساعدات العاجلة للنازحين والفئات الأكثر هشاشة، وسعت لتوفير مقومات الحياة الأساسية في ظل الانهيار شبه الكامل للخدمات. ولم يقتصر دور النساء على الجانب الإغاثي، بل اضطلعن كذلك بمهمة توثيق الانتهاكات التي تعرّضت لها النساء، خاصة تلك المرتبطة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، بغرض كشف الجرائم والضغط من أجل محاسبة مرتكبيها.
وعلى الصعيد السياسي، أوضحت عائشة أن الحركة النسوية لعبت دوراً مهماً في المناصرة والدفاع عن حق النساء في المشاركة الفاعلة ضمن العمليات السياسية ومسارات السلام، مؤكدة أن تغييب النساء عن هذه العمليات لن يقود إلى سلام عادل أو مستدام. وأشارت إلى أن المبادرات النسوية أسهمت في تقديم الدعم النفسي والخدمات الصحية الأساسية، وأطلقت مبادرات مجتمعية مبتكرة مثل إنشاء المطابخ المجتمعية للتخفيف من حدة انعدام الأمن الغذائي.
وقالت إن دور الحركة تجاوز الإطار الإغاثي إلى المقاومة والتنظيم، حيث نشأت مبادرات ومنظمات جديدة بعد اندلاع الحرب رفعت شعار وقفها، وعملت على دعم المسارات المدنية لإنهاء الصراع. وأكدت أن غالبية الناشطات والجماعات النسوية أعلنت منذ اليوم الأول موقفاً واضحاً ضد الحرب، وشاركن في مختلف الجهود المدنية المطالبة بالسلام، رغم حملات الاستهداف التي تعرضن لها سواء عبر السرديات المناهضة لمشاركتهن السياسية أو من خلال قوائم “المطلوبين” التي تداولها طرفا الصراع على الإنترنت. ورغم هذه العراقيل، ترى عائشة أن الحركة النسوية أثبتت أنها ليست مجرد مكوّن اجتماعي، بل قوة فاعلة لحماية المدنيين وتعزيز التماسك المجتمعي والدفاع عن الحقوق والمساهمة في بناء السلام.
طبيعة التدخلات
وتطرقت عائشة إلى طبيعة التدخلات التي برزت من داخل الحركة النسوية خلال الحرب، موضحة أنها تنوعت بين الإغاثة والمناصرة والتوثيق والعمل السياسي. وأشارت إلى أن النساء انخرطن بكثافة في العمل التطوعي، سواء عبر تقديم الرعاية الصحية كطبيبات وممرضات في ظروف بالغة الصعوبة، أو من خلال جهود الإغاثة المباشرة التي أنقذت حياة آلاف النازحين واللاجئين. كما لعبت الناشطات دوراً محورياً في دعم النساء النازحات والمعنّفات داخل السودان وخارجه، عبر توفير خدمات الحماية والدعم النفسي وبناء شبكات تضامن تقلل من آثار الحرب عليهن.
وفي مجال التوثيق، ذكرت أن الحركة النسوية رصدت الانتهاكات الجسيمة ضد النساء، وخاصة العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، بغرض كشف الحقائق والمطالبة بالعدالة وعدم الإفلات من العقاب. أما في مجال المناصرة، فقد كان صوت النساء حاضراً بقوة في المطالبة بوقف الحرب والتأكيد على أن مشاركتهن تمثل ضمانة لأي عملية سياسية أو سلام مستدام. وأكدت أن النساء شاركن بفاعلية في المبادرات المدنية والسياسية، وطرحن رؤى بديلة تعكس أولويات المجتمع وتضع احتياجات الفئات الهشة في قلب النقاش.
ورغم تأثير هذه الجهود وتعدد أبعادها، ترى عائشة أنها تظل محدودة قياساً بضخامة التحديات، سواء من حيث اتساع رقعة النزاع وآثاره الكارثية، أو من حيث نقص الموارد والدعم للمبادرات النسوية. لكنها شددت على أن هذه التدخلات شكلت ركيزة أساسية لصمود المجتمعات ورسّخت حضور النساء كقوة مقاومة وفاعلة وفتحت آفاقاً جديدة لمشاركتهن في صياغة مستقبل السودان.
قضية التمثيل
وفي ما يتعلق بمدى قدرة الحركة النسوية على تمثيل النساء في مختلف الأقاليم والطبقات، اعتبرت عائشة أن هذا السؤال معقد، إذ إن بعض المبادرات نجحت في تجاوز حدود المدن الكبرى والوصول إلى مجتمعات النزوح والمناطق الطرفية، خاصة عبر مبادرات الإغاثة والمطابخ المجتمعية وشبكات الدعم النفسي والاجتماعي، مما جعلها أكثر قرباً من معاناة النساء في حياتهن اليومية داخل مناطق النزاع.
لكنها أشارت إلى وجود انتقادات ترى أن الحركة النسوية ما تزال تعاني من قيود تجعلها محصورة في الأطر الحضرية والنخبوية، إذ تتركز قيادة الكثير من المبادرات في دول اللجوء مع ضعف الروابط مع النساء داخل السودان، الأمر الذي خلق فجوة في تمثيل التجارب المتنوعة للنساء في مناطق النزاعات. وأضافت أن ضعف الموارد وصعوبة الوصول إلى تلك المناطق فاقم هذا التحدي.
وبرغم ذلك، أكدت أن الحرب ساعدت على توسيع أشكال التنظيم النسوي خارج الأطر التقليدية، حيث ظهرت مبادرات محلية في معسكرات النزوح والقرى والمناطق الطرفية لعبت دوراً عملياً في حماية النساء وتلبية احتياجاتهن، حتى وإن لم تكن مرتبطة بشكل كامل بالحركة النسوية الأوسع. واعتبرت أن هذا التطور يعكس اتجاهاً متنامياً نحو قدر أكبر من التنوع والتمثيل، لكنه لا يزال بحاجة إلى دعم وتوسيع ليعكس بشكل أعمق أصوات النساء في مختلف الأقاليم والطبقات.
التنظير والرؤية
أوضحت عائشة حمد محمد أن الحركة النسوية في السودان لم يكن لديها منذ البداية إطار نظري متكامل لفهم الحرب وتفسير أسبابها العميقة، بل تعاملت معها كحدث طارئ ركّزت فيه على إنقاذ الأرواح، وتقديم الإغاثة، والتوثيق، والمناصرة لوقف القتال. وأضافت أن مرور الوقت أتاح للمجموعات النسوية مساحة أوسع لربط الحرب بقضايا التهميش وعدم المساواة، وطرح قراءات أعمق تبرز كيف تدفع النساء الثمن الأكبر للنزاعات. وترى أن هذه المحاولات، رغم كونها ما تزال متفرقة وفي طور التشكل، تمثل خطوة نحو بناء إطار فكري أوضح يمكن أن يشكل قاعدة لعمل الحركة النسوية في المستقبل.
أما فيما يتعلق بقدرة الحركة النسوية على إنتاج خطاب متمايز عن خطاب المنظمات الدولية، تؤكد عائشة أن الحركة نجحت إلى حد كبير في بلورة خطاب نسوي سوداني يعكس واقع النساء وتجاربهن المباشرة مع الحرب والتهميش، ويركز على أولويات أساسية مثل الحماية من العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، ودعم النازحات واللاجئات، وضمان المشاركة السياسية العادلة للنساء، إلى جانب المطالبة بوقف الحرب وتحقيق سلام شامل. وتشير إلى أن ظهور مجموعات نسوية جديدة بعد اندلاع الحرب أضفى بعداً إضافياً لهذا التمايز، حيث وضعت كل مجموعة أجندتها الخاصة ورؤيتها المستقلة، ما جعل الخطاب أكثر تنوعاً وغنىً وأبعد عن مجرد ترديد شعارات المنظمات الدولية.
وفي تقييمها لانعكاس الحرب على الرؤية الفكرية للحركة، تقول عائشة إن الحرب فاقمت مظاهر عدم المساواة، ورفعت معدلات العنف الجنسي والانتهاكات الجسيمة ضد النساء، وأدت إلى زيادة حالات الختان والزواج المبكر وانعدام خدمات الصحة الإنجابية في مناطق النزاع، في ظل غياب التزام الأطراف المتحاربة بالمواثيق الدولية لحماية النساء. كل ذلك مثّل انتكاسة لحقوق طالما ناضلت النساء لترسيخها. لكن الحركة النسوية أعادت ترتيب أولوياتها استجابةً لهذه التحديات، فتمحور خطابها حول الحماية من العنف الجنسي، وتوثيق الانتهاكات، والدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، وضمان مشاركة النساء في عمليات السلام والسياسة، باعتبار أن أي اتفاق لا يشمل أصوات النساء وتجاربهن لن يحقق سلاماً عادلاً أو مستداماً.
الحياد والانحيازات
تقر عائشة بأن الحركة النسوية لم تكن على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتحاربة، إذ تأثرت بالاستقطاب السياسي والعسكري شأنها شأن بقية قوى المجتمع المدني. بعض المجموعات ركّزت على توثيق انتهاكات طرف محدد، بينما غضّت الطرف عن انتهاكات مماثلة ارتكبها الطرف الآخر، ما عرّضها لانتقادات واسعة وأطلق عليها أوصاف مثل “التابعات للجنجويد”. وترى أن هذه الممارسات، رغم محدوديتها، أضعفت الخطاب النسوي وصورته كقوة مستقلة. وتشير إلى أن الحملات الإعلامية للأطراف المتحاربة ساهمت في تعميق الانقسامات عبر استهداف الناشطات وتشويه مواقفهن، كما أن تضارب المصالح المرتبط بمصادر التمويل ومناطق عمل بعض المنظمات النسوية داخل مناطق يسيطر عليها أحد أطراف الحرب أثّر بشكل واضح على قدرتها على التوثيق والنشر بحرية.
وتضيف أن تاريخ الحركة النسوية كان دوماً مرتبطاً بدرجات متفاوتة بالأجسام السياسية، ومع اندلاع الحرب تعمّق الاستقطاب وأدى إلى انقسامات داخلية حادة، وصلت إلى فصل بعض النساء عند انضمامهن لمجموعة “تأسيس” بسبب اختلاف الأجندات. ورغم ذلك، تؤكد عائشة أن العديد من الناشطات تمسكن بمواقف مبدئية واضحة ترفض جميع أشكال العنف دون النظر إلى الجهة المرتكبة له، وأن هذه الأصوات كانت حاسمة في إبقاء الحركة مرتبطة بقضايا النساء الأساسية لا بالاصطفافات السياسية. وتشير إلى أن الحركة واصلت رغم الانقسامات إطلاق مبادرات للمطالبة بوقف الحرب وتطوير أجندة نسوية واضحة تدعو إلى العدالة النوعية وضمان مشاركة النساء في كل العمليات السياسية وعمليات السلام.
وعن الخطوات العملية التي يمكن أن تعيد للحركة مصداقيتها في التوثيق والتعبير عن الضحايا بعيداً عن التسييس، تقترح عائشة وضع ميثاق يتضمن رؤية ومبادئ وأهداف مشتركة قائمة على الشفافية والمصداقية، وإنشاء شبكة من منظمات المجتمع المدني لتعزيز التوثيق الإلكتروني، إلى جانب آليات موثوقة لتوثيق شهادات الضحايا. كما تدعو إلى تعزيز الروابط بين المجموعات النسوية في دول اللجوء وتلك الموجودة داخل السودان، وضمان الشفافية في تقديم المعلومات ونشرها.
الخلافات والانقسامات
تشير عائشة إلى أن الحركة النسوية في السودان تضم مجموعات متنوعة، وليست كتلة واحدة، وهذا جعلها عرضة لخلافات فكرية وسياسية وتنظيمية زادت وضوحاً بعد حرب 14 أبريل والانقسامات في الكتل المدنية. وتوضح أن الانشقاق الذي وقع في تحالف “تقدم” كشف أن الأجندة السياسية لدى بعض النساء أصبحت أقوى من التمسك بقضايا النساء نفسها. كما أن الاختلافات الثقافية والفكرية بين الناشطات جعلت من الصعب صياغة خطاب موحّد، رغم الاتفاق على المبادئ الكبرى مثل وقف الحرب ورفض العنف القائم على النوع والمطالبة بإشراك النساء في عمليات السلام والسياسة. وتلفت إلى أن هناك جهوداً فكرية جارية لمراجعة هذه الأجندة والخروج برؤية مشتركة.
وترى أن التشرذم داخل الحركة النسوية أضعف بعض مكوّناتها، وأثر على قدرتها على جذب التمويل، في حين استفادت مجموعات أخرى من استمرار الدعم. كما أدّى استقطاب طرفي الحرب إلى تعميق الانقسامات وأضعف العلاقة مع بعض المنظمات الدولية الداعمة، إذ بات الممولون يستخدمون حالة الانقسام ذريعة لتقليص التمويل أو إعادة توجيهه، ما زاد هشاشة الحركة النسوية.
وتضيف عائشة أن الحرب منحت، رغم كل شيء، فرصة للتقارب بين العديد من المجموعات النسوية والعمل المشترك لصياغة أجندة موحّدة، لكنها في الوقت نفسه عمّقت الفجوة بين القيادات والمجموعات القاعدية، إذ تحوّل التركيز إلى حماية النساء وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي بدلاً من المشاركة السياسية.
المستقبل والأولويات
تؤكد عائشة أن الحركة النسوية لن تتوقف عند مربع المناصرة بل ستنتقل إلى مربع الفعل السياسي المباشر، فأنشطة الضغط والمطالبة بوقف الحرب وتحقيق العدالة هي في جوهرها أفعال سياسية. وتتوقع أن تستمر الحركة في الدفاع عن القضايا الملحّة مثل الحماية من العنف وضمان مشاركة النساء في العملية السياسية والمطالبة بحقوقهن كاملة، إضافة إلى البقاء حاضرة في القضايا الوطنية الكبرى المتعلقة بمستقبل السودان، لأن نضالها من أجل النساء مرتبط عضوياً بنضالها من أجل العدالة والسلام والتنمية.
أما عن أولويات مرحلة إعادة البناء الوطني، فتحدد عائشة عدة خطوات أساسية: توحيد الرؤية والأجندة النسوية، الضغط على أطراف الحرب وداعميها لاتخاذ خطوات ملموسة لوقف القتال وحماية المدنيين وفتح الممرات الإنسانية، تضمين حقوق النساء في كل عمليات السلام والعملية السياسية وما بعد النزاع، وتحقيق السلام المستدام على أساس دولة المواطنة المتساوية وعدالة توزيع السلطة والثروة. وتشدد على ضرورة إنهاء الإفلات من العقاب وضمان عدم تكرار الفظائع عبر تفعيل العدالة الانتقالية ومحاسبة الجناة وجبر ضرر الضحايا وتعويضهم.
وفي ختام حديثها، تشدد عائشة على أن استعادة ثقة النساء، وخاصة الناجيات من العنف، تتطلب تعزيز التواصل معهن، وتقديم الدعم الصحي والنفسي والاجتماعي، وتوفير مساحات آمنة لهن، وإجراء حوار دوري حول القضايا التي تهمهن، مع ضمان إشراكهن وتمثيلهن الجاد في كل المحافل الداخلية والخارجية.