الخارجية السودانية.. وزارة حرب فقدت ظلها

أفق جديد – وحدة الرصد والتحليل

في فجر الخامس عشر من أبريل 2023، كانت الخرطوم مدينة تحترق على وقع دوي المدافع ورائحة البارود التي ملأت سماءها. وبينما كان المدنيون يختبئون في بيوتهم، مترقبين أن تأتيهم بارقة أمل من الدولة تدعو للتهدئة، خرج بيان وزارة الخارجية كصفارة إنذار: “تمرد مسلح يستهدف الدولة السودانية ويجب سحقه.” لم يكن البيان دعوة لحماية المدنيين أو التماس هدنة، بل كان إعلان انحياز كامل لجبهة القتال، وكأنه صيغ بلغة غرفة العمليات لا بلغة وزارة دبلوماسية.

منذ تلك اللحظة، تحولت الوزارة من بوابة السودان إلى العالم إلى ما يشبه مكبر صوت رسمي للحرب. بياناتها وتصريحات وزرائها حملت رائحة البارود نفسها التي كانت تعبق في شوارع العاصمة، وظلت تكرر رواية الحسم العسكري كقدر محتوم. لم تكن مجرد بيانات، بل كانت رسائل إلى الداخل والخارج بأن السودان لن يبحث عن سلام حتى “يُسحق التمرد”، بحسب تعبير مسؤوليها.

على امتداد الفترة من أبريل 2023 وحتى منتصف سبتمبر 2025، تكررت المشاهد: بيانات حادة النبرة، مؤتمرات صحفية بلغة أقرب إلى بيانات هيئة الأركان، وتصريحات تعلن بوضوح أن السلام ليس أولوية الآن. كان ذلك البيان إيذاناً بأن وزارة الخارجية، التي يُفترض أن تكون بوابة السودان إلى العالم وصوت العقل في لحظات الانفجار، قد قررت منذ اللحظة الأولى أن تتبنى خطاب الحرب. بل إن بياناتها اللاحقة بدت في بعض الأحيان أشد حدة من خطابات المؤسسة العسكرية، وتناقضت أحياناً مع مواقف رئيس مجلس السيادة نفسه.

بدت الوزارة وكأنها خرجت من دورها الدبلوماسي التقليدي إلى دور تعبوي لا يختلف كثيراً عن بيانات هيئة الأركان. بياناتها وتصريحات وزرائها ووكلائها حملت لغة عسكرية أكثر منها لغة تفاوضية. في مايو 2023، ومع بدء محادثات جدة برعاية سعودية أميركية، قال وكيل وزارة الخارجية آنذاك، السفير دفع الله الحاج علي عثمان، تصريحاً أصبح لاحقاً عنواناً لموقف الخرطوم:

“لن يجري أي لقاء مباشر مع وفد المتمردين من الدعم السريع، نحن هنا فقط لمناقشة الترتيبات الإنسانية ووقف إطلاق النار المؤقت.”

هذه العبارة، التي كررها دفع الله في أكثر من محفل، لخّصت نهج الوزارة: لا تسوية سياسية، لا اتجاه ناحية السلام، بل حوار فني لإنفاذ هدنة قصيرة ثم العودة إلى الميدان.

الخطاب نفسه تواصل في بيانات لاحقة. ففي يوليو 2023، أصدرت الوزارة بياناً شديد اللهجة رفضت فيه تصريحات أممية دعت لحوار شامل، وجاء فيه:

“الحكومة السودانية لن تقبل أي مبادرات تتجاوز سيادتها أو تسعى لفرض حلول سياسية تمنح شرعية للميليشيا المتمردة.”

 

لم تكن هذه مجرد كلمات، بل سياسة متكاملة. فبدلاً من أن تتحول الوزارة إلى منصة لحشد الدعم الدولي لوقف الحرب أو لحماية المدنيين، انشغلت بالدفاع عن الخيار العسكري للجيش، والضغط الدبلوماسي لطرد بعثة يونيتامس الأممية من السودان، وهو ما تحقق في أواخر 2023. في بيان الاحتفاء بقرار مجلس الأمن إنهاء ولاية البعثة، قال دفع الله الحاج:

“استعادة سيادة السودان على قراره الوطني تمثل خطوة تاريخية، ولن نسمح لأي جهة خارجية باستغلال الوضع لفرض وصاية جديدة.”

لجنة أزمة:

ويقول دبلوماسي في الوزارة لـ”أفق جديد”: “في الفترة من 15 أبريل 2023 وحتى بداية العام 2024، لم تكن هناك وزارة بالمعنى المتعارف عليه. توقف العمل الدبلوماسي بشكل شبه كامل، وتقطعت السبل بالإدارات التي تدير العمل الدبلوماسي، وتفرقت الكوادر. تم تشكيل فريق أزمة لا ندري من شكّله ولا أين وكيف يجتمع ويتخذ المواقف. نحن كعاملين في الوزارة كنا نقرأ بيانات الوزارة مثلنا مثل الآخرين في وسائل الإعلام.”

كان الوزير علي الصادق مختفياً عن الأنظار والاتصال به مقطوع، فيما توالت الإشاعات حول موقفه. نشط وكيل الوزارة السفير دفع الله الحاج في المشهد، مستعيناً بفريق الأزمة الذي تفيد المعلومات أنه مشكّل من السفير خالد موسى دفع الله، والسفير حسين عوض علي صاحب التصريح الشهير “السودان يواجه حرباً تشنها أربع قارات عليه”، إلى جانب بعض الشخصيات من خارج الوزارة.

استمرار التحشيد

خلال عام 2024، تكررت البيانات على نفس النسق. كلما طُرحت مبادرة إقليمية أو دولية لوقف الحرب والدخول في مفاوضات سياسية، خرجت الوزارة ببيان يرفض “التدخل في الشؤون الداخلية” ويؤكد أن “المعركة تمضي نحو الحسم”. في مارس 2024، صرح وزير الخارجية المكلف آنذاك علي الصادق قائلاً:

“الجيش يحقق تقدماً على الأرض، وأي حديث عن حلول سياسية قبل استعادة الأمن الكامل للعاصمة هو إجهاض لسيادة الدولة.”

كان واضحاً أن الوزارة لا ترى نفسها طرفاً محايداً أو وسيطاً بين القوى المتحاربة، بل طرفاً أصيلاً في المعركة يروّج لرواية الحسم العسكري. حتى مشاركاتها في جولات جنيف 2024 اقتصرت على مناقشة ممرات الإغاثة الإنسانية وتبادل الأسرى، من دون أي التزام بخارطة طريق للسلام.

لغة الوزارة لم تكن فقط متشددة، بل مثقلة بمفردات الحرب. بياناتها وصفت الدعم السريع مراراً بـ”الميليشيا الإرهابية” و”العصابة المتمردة”، وهو خطاب بغلق أي نافذة للحوار السياسي. في أغسطس 2025، وبعد عامين ونصف العام من الحرب، أصدرت الوزارة بياناً تقول فيه:

“السلام الحقيقي لن يتحقق إلا بعد القضاء على التمرد واستعادة الدولة هيبتها بالكامل.”

هذه العبارة تكشف بوضوح أن الوزارة لم تغيّر موقفها رغم الكلفة الإنسانية المروعة للحرب: ملايين النازحين، مدن مدمرة، ومجاعة وشيكة.

وضع مربك

المشهد الدبلوماسي الخارجي كان انعكاساً لهذا الموقف الصلب. في مجلس الأمن، خاضت الوزارة معركة لإقناع الدول الرافضة للحرب بأن الجيش يقاتل في “حرب مشروعة لاستعادة الدولة”. وفي الجامعة العربية، كانت بياناتها تدعو الدول إلى “دعم القوات المسلحة لاستكمال مهامها الوطنية”، بدلاً من دفعها نحو وقف شامل لإطلاق النار.

ويقول الدبلوماسي الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه إن الوضع المربك في الوزارة دفع بعض الدبلوماسيين إلى إصدار بيان في يوم الخميس 24 أكتوبر 2024 أكدوا فيه أن الوزارة مختطفة من قبل مجموعة من الإسلاميين، وأنها فقدت دورها تماماً وباتت تنفّذ أجندة لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسي. وأضاف الدبلوماسي مشيراً إلى أن البيان الذي صدر مذيلاً باسم “لجنة مقاومة وزارة الخارجية” جاء بمناسبة الذكرى الثالثة لموقف السفراء والدبلوماسيين الذين أعلنوا رفضهم لانقلاب 25 أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية، معتبراً أن هذه الذكرى “مجيدة ومؤرخة بحروف من نور”.

وأعرب البيان عن أسف الدبلوماسيين الشديد على الوضع الحالي للوزارة، مشيراً إلى “السيطرة الشاملة من قبل الإسلاميين والقوى الظلامية” التي جعلت من الوزارة أداة قمع وملاحقة للمعارضين في الخارج، كما انتقد منع السودانيين من حقوقهم الدستورية في استخراج وتجديد مستنداتهم عبر السفارات.

فقدت ظلها

من جانبه، يقول الخبير الدبلوماسي مخلد صادق إن الحرب أثرت بشكل كبير على الدبلوماسية السودانية، مشيراً إلى أن السودان كان يُعرف تاريخياً بصلابة وحنكة دبلوماسيته. وأضاف لـ”أفق جديد” أن السودان في بداية الحرب افتعل أزمات مع معظم دول جواره، مما أظهره وكأنه دولة مارقة تفتعل المشاكل. وأضاف:

“يحق للسودان كدولة الاعتراض على تحركات أيّ دولة يرى أنها متورطة في تقديم إمداد للدعم السريع، لكن الطريق الأفضل هو تقديم شكوى لمجلس الأمن وفق الأدلة، لا بالتصريحات وافتعال الأزمات والتهديدات.”

وكانت الخارجية السودانية قد أصدرت في 16 يونيو 2023 بياناً حاد اللهجة رفضت فيه رئاسة الرئيس الكيني وليم روتو للجنة الوساطة الإقليمية، متهمة إياه بالانحياز لقائد قوات الدعم السريع، كما وجهت الوزارة في التاريخ نفسه اتهامات لإثيوبيا وتشاد بالتآمر ضد السودان.

حصاد المخاشنة

وفي نهاية عام 2023، وتحديداً في 17 ديسمبر، بدأ السودان في حصد نتائج المخاشنات الدبلوماسية التي دخل فيها مع دول الجوار. فقد أبلغت وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي التشادية السفارة السودانية في نجامينا، بقرار الحكومة تصنيف أربعة دبلوماسيين سودانيين كأشخاص غير مرغوب فيهم وأمهلتهم 72 ساعة لمغادرة البلاد. ورد السودان بالمثل بطرد أربعة دبلوماسيين تشاديين. وانتقدت نجامينا بشدة التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السوداني علي الصادق واتهم فيها تشاد بالضلوع في إيصال إمدادات إلى قوات الدعم السريع.

وفي ديسمبر نفسه، أمر السودان 15 دبلوماسياً إماراتياً بمغادرة أراضيه، قبل أن يعلن في مايو 2025 قطع العلاقات بالكامل مع أبوظبي.

إطالة أمد الحرب

النتيجة أن السودان بدا في نظر كثير من العواصم وكأنه لا يبحث عن حل بقدر ما يسعى لإطالة أمد المعركة. دول مانحة أوقفت مساعداتها، ومنظمات إغاثة حذّرت من كارثة إنسانية ما لم يتم فتح ممرات آمنة، لكن الوزارة واصلت خطابها التصعيدي، مؤكدة أن “فتح الممرات يجب أن يتم بالتنسيق الكامل مع الجيش حتى لا تستفيد منها الميليشيا”، بحسب أحد بياناتها في مطلع 2025.

المراقب لخطاب وزارة الخارجية خلال هذه الفترة سيجد نفسه أمام “وزارة حرب” أكثر منها وزارة خارجية. فبدلاً من أن تطرح رؤية سياسية شاملة لسلام مستدام، ظلت مواقفها تدور حول شرط وحيد: الحسم العسكري أولاً، ثم التفكير في أي شيء آخر لاحقاً. هذا الموقف قد يكون مفهوماً من مؤسسة عسكرية، لكنه من وزارة خارجية يُفترض أن تمثل صوت العقل والحكمة في لحظات الأزمات الكبرى، يبدو وكأنه انحراف عن وظيفتها الأساسية.

والنتيجة النهائية أن الوزارة أسهمت، من حيث تدري أو لا تدري، في إطالة أمد الحرب وتوسيع عزلة السودان دولياً. ففي حين كان العالم ينتظر من الخرطوم أن تأتي بمبادرة سياسية شجاعة توقف نزيف الدم، كانت الوزارة تعلن في كل بيان جديد أن “المعركة مستمرة”. وبينما كان ملايين السودانيين يبحثون عن بصيص أمل للسلام، كانت دبلوماسية بلادهم تسوّق لفكرة أن الحرب قدر لا بديل له.

اليوم، وبعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب، يبدو أن السودان يحتاج إلى وزارة خارجية جديدة بالمعنى الحقيقي للكلمة: وزارة تُعيد للدبلوماسية السودانية وجهها العاقل، وتفتح الباب أمام حوار شامل يوقف الحرب ويعيد للبلاد مكانتها المفقودة. فالخرطوم لا تحتاج إلى مزيد من البيانات الغاضبة، بل إلى جسر يربطها بالعالم ويعيد لها صوتها كدولة تبحث عن السلام لا عن المعارك المفتوحة.

 

Exit mobile version